الرأي الأوّل: التيارات السياسيّة الحركيّة ذات المرجعية الإسلاميّة في البلاد العربيّة و منها تونس ليس بمقدورها النجاح بالقيام بواجبات الحكم و بإدارة مباشرة لشؤونه في الوقت الراهن و ذلك لعدّة اعتبارات ذاتيّة و موضوعيّة:
- الذاتي: و يتمثّل في قصور ذاتي في بنية عقلها السياسي، فهو عقل يتلظّى بنار قطبين القطب الأوّل، الإحتكاك بالنصوص، و القطب الثاني، الفهم و التنزيل، قطب أوّل يولّد طوباوية مع دغمائيّة شكلانيّة لعقل قاصر برؤية تجزيئيّة سلفيّة و ظاهريّة، و قطب ثاني يستمدّ حرارته من الواقع المتحرّك و البائس، فيه نار مشتعلة و مشتغلة تثبت القصور المتواصل لهذا العقل الواهن فيما في القطبين وما بينهما، مع ترسّب لإحساس متزايد بالغربة الوجوديّة في واقع مفارق لمقدّماته العقليّة. الطوباويّة وجدت مرتكزات لها في بنيته نتيجة تغلغل التراث الفكري (منتوج بشري) الفقهي و السياسي… في الطبقات السفلى من وعيه و عقله مع تداخل عجيب مع العرف السائد و السلوك الجمعي المسترخي و المستمرئ لكثافة الوهن العامّ و الخاصّ و استطالته بمقياس زمني حضاري، ممّا قدّم نماذج هجينة لِتدَيُّنات تُغذّي العذابات و الآلام النفسيّة و جلد للذات الجمعيّة على نمط حفلات اللّطم الشيعيّة. أمّا الفهم و التنزيل فقد كُبِّلتا بمنهجيّات فكريّة لم تستطع إلى الآن التخلّص من المكتسبات التي استودعها و رهنها هذا العقل بعُقاله نتيجة إلتصاقه الدائم بمنظومات الحكم السائدة ( التي اشتغلت تقريبا على نفس الأرضيّة و بنفس الأسلوب بمعزل عن الاختلافات المذهبيّة و الطائفيّة إذ تنهل كلّها من نفس الطبائع: الاستبداد، الاستئثار، الغلبة، التوريث السياسي، المملوكيّة،الجمود الفكري و السياسي، تجميد الإجتهاد و تمجيد مجتهدي السلف….).و التي بنت مفهوما قروسطيا للسلطنة و الإمارة و لمركزيّتهما بيد القبيلة أو الجند …إلخ، و تجاوزت بشكل بدائي و قَبَلي و عائلي لإسٍّ من أسس الحكم الرشيد المتمثّل في الشورى و العدل و القسطاس. و نتيجة لتواتر و تعدّد أسْوَجَة العزل و الإنعزال فلقد مسّ هذا العقل، و مع الزمن، الوهن بنيته و منهجيّته و في حيويّته الداخليّة، فبقي القطب الطوباوي و الدغمائي يعاني من مفارقة رهيبة مع الواقع، أنتجت له أزمات ربو وجوديّة كثيرة و متواترة في مواجهة الكثير من المعضلات المعرفيّة و الأخلاقيّة و السياسيّة…ممّا ألجأه قسرا للبحث عن حلول سطحيّة و شكلانيّة لمشكلات عميقة،مركّبة و معقّدة و عويصة، و وجد كحلّ سحري طوباوي لها اللجوء الطهراني لمنتجات السلف ( أنتجها بعصارة اجتهاده لتقديم بعض الحلول الممكنة لمعضلاته) و كسرابيل تقيه حَرَّ البحث و عرق الكدّ و الإجتهاد و التعب.
- الموضوعي: وهي مُحدِّدات و ضوابط داخليّة ( داخل القطر و خارج التيار الإسلامي) خارجيّة (خارج القطر) و رافضيّة ( رفض دوغمائي لكلّ تعبيرات هذا التيار الحركي و لو يؤدي إلى انتهاكات حقوق الانسان التي يغض الطرف عنها مؤقّتا) تحول دونه و القيام بتجريب لصوابيّة و قابليّة الوجود لنماذجه التي يتصوّرها نظريا و يعتقد جازما بأنّها تقدّم حلولا جاهزة و نموذجيّة لإدارة الشأن العام كما أدارها السابقون. وهذه المحدّدات و الضوابط تكون مرنة في مرّات قليلة و صارمة و عنيفة و انقلابيّة في الأغلب.
وهذه الممارسات انبنت أساسا على تصوّرات ما قبليّة و تاريخيّة اكتسبت بمرور الوقت حساسيّة نفسيّة لا تعتمد في منطقها على مقولاتها الأساسيّة و المبدئيّة التي تنادي بعالميتها و كونيتها مثل الحريّة و الديمقراطيّة و الانتخابات الحرّة و الإقرار بمسؤوليّة الشعوب في اختياراتها، فعندما تكون المسألة تخص التيار الحركي الإسلامي تصبح المتناقضات مترادفات قسريّة فنجد الديمقراطيّة= الإستبداد و الإنتخابات = الإنقلابات و الحرّية = الوصاية و الصندوق الإنتخابي في شكل دبّابة و أردوغان دكتاتور و بشار و السيسي ديمقراطيان..
و هذه الرؤى تجذّرت لدى الدوائر التي تحيط بمنظومة الحكم و اللوبيات المنتفعة في ظلالها و كذلك لدى مراكز النفوذ و التأثير الخارجيّة.ممّا أنتج فوبيا مزمنة في مواجهة هذه التيارات و هذه الرؤى يكتنفها سوء الفهم المتبادل، و تتغذّى شعوريّا و لا شعوريّا من الصور المستبطنة للمسارات السابقة لهذه التيارات ( لم توفّق في تقديم نماذج هادئة ومتصالحة مع واقعها في بعض التجارب القليلة و الصغيرة) و من خوف مبالغ من الشبق و النهم المفرط و الغالب على سلوك هذه التيارات و بالأخص إذا امتلكت ناصية الحكم مع مشاهدة عيب بنيوي في تشكيلها و البارزة في فصوص من الإستعجال و الرغبة الدفينة و المتسرّعة في الإمتلاك، و الرغبة الجامحة في التغيير السريع لبنية المجتمعات و نمط عيشها القائم.
لذلك ليس هناك بدٌّ من المراجعة الشاملة ( للسلوك السياسي و نمط التفكير و منهجيّة بناء الروابط و العلاقات…) و إعطاء المدى المطلوب و بالهُوَيْنا الكاملة حتى يتمكّن العقل المركزي و العقل المحيطي لهذا التيار من التطبيع التدريجي و المرن و الهادئ مع الذّات أوّلا في ظلّ حركتها نحو دوائر السلطة و الحكم و بتعويدها على مواجهة نمط جديد من المعضلات الحقيقيّة التي تواجه المجتمع و الدولة و التي هي بالضرورة ليست كمعضلات الإحتجاج و السريّة و المعارضة، و ثانيا التطبيع مع الوعاء المجتمعي العام ( السياسي، الإداري، الاقتصادي، الثقافي، المالي و الإجتماعي…) و مع الفضاء الإقليمي و الدولي ( العلاقات التاريخيّة، المصالح و النفوذ و التغييرات الجيو-سياسيّة…). لهذا يحتاج هذا التيار أن يمنح نفسه و أن يُمْنح الفرصة لصياغة رؤى جديدة متوازنة و مؤسَّسة على قواعد القدرة و الممكن و المسموح به ( داخليّا و خارجيّا) مع الدراية و الوعي و الحكمة و الإلمام بالمتوفّر (ذاتيا و وطنيا..) و المساحة الممكنة للتحرّك و التي يمكن تعميرها بالإنارة و دون إثارة مجانيّة ( داخليّة لنوازع القوّة و خارجيّة الاسترابة من حجم هذه القوّة: على قاعدة « وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا ۗ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» ) تؤجّج الإنسدادات و الإحتقانات و الإضطرابات …التي تخصم نقاطا إيجابيّة من رصيد الوطن و تساهم بشكل لا ريب فيه في التأخير من لحظة النهوض الوطني و الحضاري، و الأمل أن تستخرج من هذه المسارات الهادئة و المرنة و الناعمة المطلوبة من التيار الإسلامي مقدّمات و مؤشّرات إيجابية على حلول مبدعة للمعضلات العويصة التي تكبّل الوطن و لو في ظلّ الحدود الموضوعة سلفا مع السعي دائما لكبح جماح نوازع الاستئصال و الفوضى من ساحات الوطن.
الرأي الثاني: تونس بلد متوسّطي، مفتوحة فضاءاته على مختلف التيارات ( من الشمال و الجنوب و الشرق و الغرب و من تحت و من فوق) و هو بلد متجانس و تقريبا متكافئ و متوازن…تاريخيّا عُرِف شعبها بالريادة و السرعة في القيادة و خصوصا في اللحظات الفارقة التي يكْمُن العالم فيها و يسبت، لكن الغريب أنّه شعب قادح للشعلة لكن لوقت قصير ثمّ ينكفئ لمداواة جروحه و قروح أبنائه التي تأخذ منه جلّ الوقت المخصّص للبناء، و لأنّه في الغالب يفتقد لطينة مميّزة من النخب المسؤولة و التي تجعل من رحيقها عسلا له، فهو سرعان ما يدخل مرحلة الخواء و أمكنة الخلاء و فترة التيه من جديد، و لأنّه أبْتُلِيَ أيضا بنخب معطوبة و هجينة و جنيسة و عصابيّة تفلح أيما فلاح في تتويهه في الزواريب…
فهو سريع الغضب، سريع الإنكفاء و سريع التذمّر…تكتيكيّا هو ليس لديه من المهارة و الفنيين الذين يساعدوه و يسهرون على توجيهه من أجل تقسيط جهده و تكثيف صبره و تقوية إصراره بالرغم من همّته العالية… فهو يعتبر من المختصين في مسابقات السرعة و المسافات القصيرة مجتمعيّا عكس ما نراه لدى عدائيه الذين يحبذون المسافات المتوسّطة و الطويلة فرديّا و جماعيّا (في الرياضات الفرديّة و الجماعيّة). فشعب تونس يحبّ بسرعة و يكره بسرعة، يستلهم بسرعة و يندمج بسرعة، يحلم بسرعة و يقذف بسرعة، يفرح بسرعة و يغضب بسرعة و يتخمّر بما هو أسرع…مع كلّ هذه السرعات فهو يتميّز بخصال الإنسجام و الإستسهال لذلك لا يحبذّ سلوك المسارات الوعرة و المتشعّبة و لا يجيد السعي في التعرّجات إذ سرعان من يعتريه الملل…بل يجيد السباحة في المياه الهادئة و الصافية و التي لا خضّات فيها و السير في الطرق المنبسطة و المستقيمة… في تماه كبير مع وسطه و طبيعته الجغرافيّة…في السياسة يهوى التفرّج على ذوي الأصوات العاليّة و يستمتع ضحكا بمشاهدة المهرّجين و يقضي الكثير من الوقت يجري وراء المتفلّتين، لكنّه في الأخير يملّ سريعا من المناطحات و الصرعات و الصراعات و كلّ طواحين الهوى و لا يألف في أواخر مناسباته الكبرى ( الأعراس و الأفراح و الانتخابات….) إلاّ الموسيقى الهادئة و الترنيمات المُسَكِّنَة و التيارات الهادئة و الرصينة…فهو يلهو و يلعب و يستمتع معك في الصخب لكنّه في الآخير لا يستأمنك على صوته و ثرواته…يغري و يصفّق للبهلوانيات و لكنّه لا يستأمنهم على أفئدته…يمارس كلّ صنوف الممارسات لكنّه عندما ينوي الارتباط فلن تكون من ضمن أولوياته فصيلة السعادن و المهرّجين…
لذلك يغترّ الكثير من السياسيين الهواة بمشاهدة الحلقات التي تحيط بهم و التي تضحكهم النكات الممجوجة من أصناف غير معقولة عن الصهاريج المهرِّجة…ومع أوّل استحقاق انتخابي حقيقي يكشف الصندوق عن أسرار رغبة الناس و إصرارهم و عن كمّ هائل من الغباء السياسي للنخب المستعجلة و الثرثارة و عن صفائح كلسيّة من عدم الفهم لهذا المجتمع لدى مثقفيه و رائديه…و على هذا الأساس فطبيعي أن لا تجده منساقا في اللحظات المفصليّة الكبرى وفي أغلبه نحو بيانات المهرّجين ولا مشدودا للنوازع و النزعات المتطرّفة يمينا أو يسارا…بل يجلس في منطقة وسطى في الوسط و يجبر أغلب اللاعبين على المجيء إليه (زحفا أو على البطن أو على أربع أو على رجلين ماشيا أو مسرعا…). و مساحة وسطه هي موطن مركزه القائم و مركز ثقله و مركز دوائره المحيطة و المحاطة كما هي مركز ثرواته و ثورته و هويّته و مستقبله وهي أيضا مركز عواصمه آجلا أم عاجلا…و للإنسجام مع حركته و التلازم الحركي مع تطلعاته و آماله و أحلامه… على الجميع و خصوصا التيارات السياسيّة العضّ على النرجسيات و السعي الصادق و الحثيث للإنزياح ( سلوكا و قولا و فعلا و نفسيا..) نحو منطقة الوسط التي تجتمع فيها أغلب الأفئدة كي يستطيع الوطن تفجير ينابيع الفرح و الحلم بالثورة و الثروة و العدالة و الحريّة على أنقاض التيه و عدم الاستقرار و الحيف الإجتماعي و عدم التوازن..لأنّها تتسع للجميع و هي عنوان الفرح للعقل الوطني الذي يريد الحياة كي يستجيب القدر…و بالتالي فالخيارات المجنونة على شاكلة المتطرفين ( جبهات و أحزاب و حركات ثورجيّة و شعبويّة) تحمل بين أحشائها بذور فشلها و نسب نجاحها لن ترتقي في أسوإ حالات الوطن إلى مرتبة أكبر البقايا و ستبقى أغلب فترات عيشها تقتات من الحواشي الوطنيّة…و لتسريع تفكيك كلّ الأجهزة و الماكينات المضرّة بصحة الوطن ( لوبيات، قوى الجذب إلى الوراء، النزعات الفلكلوريّة المتحجّرة، و النزعات الثورجيّة التي تقتات من أدب الصراع، و النزعات التسلّطيّة التي تكمن في ظلال المنافع و النفوذ و الجهات…) لا بدّ من ألأطراف الوازنة و العاقلة الجذب و الدفع بشكل مغنطيسي لكلّ الشخوص كي تولّي وجهها و عقلها و فؤادها صوب قلب الوسط في منطقة الوسط، حتى تنصهر الغالبيّة و تنسجم مع الدورة الجديدة لتونس الثورة و الثروة…و لن يتمّ النجاح في هذا إذا لم تسحب من السفهاء و المعتوهين و المجانين و الدونكيشوتيين و هواة صراع الديكة و الأكباش كلّ أعواد الثقاب و فتائل الصواعق بتقليص منافعها…لأنّه بمجنون واحد يمكن حرق وطن.
الرأي الثالث: الفضاء الوطني بمختلف زواياه و سياقاته ينخر أعمدته من الداخل سوس التكاسل و العطالة و البطالة و الوهن و ببطء…و إذا فقد الوطن الحس العالي بمكانة العمل فستبقى منابره تحت مظلة الهياكل الثرثارة و العصابيّة، التي تزيد حالات صرعاتها و صراعاتها في تأزيم الوضع النفسي (الفردي و الجماعي) و الإجتماعي و السياسي ومن ثمّ الإقتصادي و المالي…و ستطغى الألوان القاتمة على جلّ الواجهات، و ستعمّ الأدخنة و الفضلات السامة جميع الساحات و الفضاءات و ستؤثّث الساحات و الدكاكين بكلّ ما هو مقلَّدٌ و هجين و جنيس، و سيفقد الحس الوطني شاعريته و شعريته و عمق معانية و تراصّ بنيانه و أبنيته و سيفقد الرمز معناه و ديمومته في المخيال الجمعي، و ستستفحل الإستقالة و نزعة الخلاص الفرديّة و القطاعيّة و الجهويّة و سيغرب الحس الوطني الجامع على قاعدة « مصلحتي و بعدي الطوفان» و ستُجَيَّر مراكز الوطن الحيويّة أو شاكراته لقوى مدمِّرة لذاتها و للمجتمع تستمتع بالغناء و تجميع الذهب في غياب الوطن…و ستكون مرحلة التيه في هذه الحالة وطأتها أشدّ و كثافتها أقوى و إنْ قُدِّر لثورة عليها فستكون دمويّة و لا تهنأ إلاّ بالخراب… بالرغم من كون شعبنا جبل على كراهية الدم المسفوك…
و لأنّ الذي يحشر الملايين في الساحات لمواجهة ترسانة عربيّة دمويّة و متمكّنة من المراكز الجيويّة هو أغبى الأغبياء…و بالتالي لكي نجنّب أنفسنا و مواطننا و وطننا كلّ هذه السيناريوهات الدمويّة المقيتة المطلوب منّا جميعا العمل من أجل الوطن مع الحكمة في تناول المعضلات و الدراية بالممكنات و المتوفّر من الطاقات و الخامات مع ملاعبة ذكيّة لسقف الممنوعات و الحدود القصوى و اللعب على الأوتار الوطنيّة مع تقديم المعالجات الهادئة و الرصينة و الناعمة و المتدرّجة مع عدم التنازل عن البوصلة لتصويب المسارات من أجل الوصول إلى الهدف الأسمى: عزّة وطن، بعدالة فعالة و استقرار عام و جريّة مسؤولة و صناديق انتخابيّة صادقة و فراشات بألوان زاهية و ديمقراطيّة متجذّرة و زيتون و حب و تمر و عنب أخضر…حياة يعشقها وطن..يؤنس كلّ من فيه و كلّ من يستنشق هواءه…