رجل الظـــــلّ

Photo

رجل الظلّ...هو كائن إنساني ذكرا كان أو أنثى، كائن ظلّي بامتياز ليس لأنّ له ظلالا بل لأنّه لا يستطيع العيش إلاّ في الظّلال....

و الظلّ هو ذلك الفضاء المعتَّم الذي تكون ظلمته ما بين العتمة الداكنة و العتمة الباهتة حسب قرب أو بعد مصدر الضوء و حسب أيضا تغيّر زاوية ارتفاع مصدر الضوء عن الجسم المضاء و بتناسب عكسي، فكلّما انخفضت الزاوية ارتفع الظل...و المعروف عن الظلّ أنّه يولد كبيرا ويصغر مع ارتفاع زاوية ورود الأشعة إلى حدود زواله مع زوال اليوم...ثمّ يعيد تطاوله حتى غروب شمسه أو مصدر إضاءته وهذه ظاهرة طبيعيّة تتحكّم فيها النواميس الكونيّة التي أودعها الله هذا الكون الفسيح ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً )….

وفي أرضنا الحرّة التي أشرقت عليها شمس الحريّة ككثير من الأوطان الحرّة أو السائرة في دروب الحريّة…و لأنّ أشعّة هذه الشمس قويّة كما يمكنها أن تشرق و تغرب في اليوم العديد من المرات ولا تنضبط لقواعد الشروق و الغروب الطبيعيّة بل تخضع للقواعد الإنسانيّة في بناء المجتمعات و الأوطان الحرّة و شروقها و مدّة و مدى إشعاعها تخضع للطاقة الجمعيّة التي تختزنها الإرادات على المستوى الفردي و الجماعي و التي تنصهر و تتكثّف في بنية المجتمع و في أرضه الخصبة، و الإرادات هي وحدها التي تجبر الظلال على الضمور و الانكماش و هي وحدها التي تمنع من حيث تعلم تقليص مساحة الحقل الحيوي لرجل الظل و الظلال….

و لأنّ رجل الظلّ يهوى العيش في الفضاءات و المساحات العاتمة و في أبغض حلاله في الفضاءات المتقلِّصة الضياء…و لأنّه يسعى دائما لاستدامة الظلال التي يمكن أن تتحوّل إلى ظلمة متى ما انخفضت شدّة الإضاءة أو انعدمت و بالأخصّ إذا ما عمّت أرجاء الوطن و فضاءاته الغيوم التي يمكن أن تتحوّل إلى أدخنة تزكم الروح و الأنوف و تمنع نبتة الحريّة من النمو و الإثمار…

و رجل الظلّ تعتري ظلاله حالتين من الوجود و الشهود…أوّلا حالة الظلّ الحقيقي التي يظهر فيها عيانا وفي فترات محدودة على مسرح الأحداث و المحادثات، في الكواليس تحت العرائش المظلّلة. و ثانيا في حالة الظلال الصامتة أو الباهتة أين يوظّف أذرعته و إمكانياته التواصليّة عن بعد و إن لزم الأمر بالإشارات الهرتزيّة لكي تؤدّي ما عليها له و ما إليها إليه… ورجل الظلّ هذا يمكن أن يكون مفردا في صيغة الفرد كما يمكن أن يكون مفردا في صيغة الجمع…له قدرة كبيرة على التخفّي و الذوبان في درجات الحرارة المنخفضة و يمتاز بمتوسط حياة مرتفعة بالمقارنة مع متوسط حياة الزعماء و السلاطين ( خصال حياة سلحفاتيّة) وله أيضا قدرات كامنة تمكّنه من استدامة العيش في مراحل متتالية و متضاربة و متصارعة فباستطاعته أن يعيش في ظلّ الزعيم الأوّل و الزُّعَيْم المنقلب عليه كما تمكّنه حباله السريّة من القدرة على العيش و التواصل مع الثوّار و الثورجيين و صنّاع التوافق و الشراكة الوطنيّة…

و لتعدّد الظلال التي يركن بين هباءاتها الجزيئيّة يحتاج رجل الظلّ لتفعيل العدّة و العتاد و رباط الخيل( عددا و عديدا).. وهو في الحال هذه كمن تميّز بمهارة تحريك الدّمى…فهو الذي يحرّك دُمَاهُ بالخيوط الرقيقة و الدقيقة و الشفافة من الكواليس و من وراء الستار…و يحتاج مرارا للتحرّك و التحريك إلى ما وراء وراء الكواليس و إلى ما بعد حداثتها وفي حالات أخرى من الستار و إن لزم الأمر من أمامها… وهو أيضا يتقن المشهديٌّة بامتياز ناهلا من التراجيديا و الحبكة الدراميّة…إذ لا تغيب عن حلقاته و تموّجاته و إشعاعات ظلّه و ظلامه لا شاردة و لا واردة…و الملاحظة الأكيدة هي أنّ رجل الظلّ موجود في كلّ الأماكن و الفواصل و المراحل الزمنيّة و مع كلّ السلاطين لكن تختلف نسبة تأثيره في مجريات الأمور مع نسبة و شدّة الإضاءة المؤسساتيّة المبنيّة على قواعد و قوانين خضع لها الجميع تحقيقا لنظريّة العقد الإجتماعي لروسو…لكن لا بدّ من الإشارة إلى مقولة شعبيّة نادرة تلخّص حالة الظلّ التي يهوى استمرارها « لن يستقيم الظلّ و العود أعوج.«

في تونس يمتلك رجل الظلّ قدرات عجيبة و خارقة للفعل و التأثير في ظلِّ ظلال مختلفة لأجسام مختلفة، في نفس المكان و في نفس الوقت، فهو مثل أشعة إكس يمكنه من اختراق الأجسام و تحوير ماهيتها الباطنيّة و بالتالي ظلالها بمختلف تكويناتها وبنيتها و مرجعياتها… يمينا كانت أو يسارا… إدارة أو منظمات أو جمعيات أو أحزابا…. و أيضا في كلّ مرّة من نفس القلاع و الأمكنة و في نفس الوقت بتلازمات فريدة… و المفارقة بالرغم من كونه كائن ظلّي إلاّ أنّه عابر و حادث و يخضع في إحداثياته للأبعاد الأربعة التي تخضع لها الأجسام و الأشياء في الأرض…الأبعاد الثلاثة للمكان و البعد الرابع للزمان..

Photo

أمّا الشعوب التي نحتت مساراتها بعصارة الحريّة و سنّت قوانينها ليخضع في ظلالها الجميع و لو كان بينهم رجال ظلالها…هي الشعوب التي استطاعت تقليص مساحة الظلال بتقليص الفضاءات الحيويّة لرجال ظلالها و بالتالي التقليص من عددهم وعدّتهم اللوجستيّة و المهاريّة… ولكي تنجح تونس و تؤنسها الأناشيد و الأغاني الزاهية في فضاءات الحريّة لابدّ و لا مندوحة من الكدّ و السعي للتقليص من المساحات المظلمة و المظلّلة للتقليل و إلى الحدود الدنيا من منافع و مواطئ أقدام رجال الظلال و الظلام باستعمال الكشّافات الضوئيّة المبهرة للمجتمع المدني و الإعلام النزيه و المهني و المستقل و القضاء العادل و الأمن الجمهوري الحقيقي و المؤسسات المدسترة مع تعويض بنيوي و هيكلي لكلّ الشخوص التي أصابها مسّ أو طيف من جنون الوصل برجل من الظلّ الأعوج ….

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات