يعبر الإنسان من فضاء رحم الأم إلى الفضاء الوطني حرّا إلا من حاوياته و محتوياته الموهوبة له (الروح و الجسد) وهي ليست سوى جبلّته و فطرته و برنامجه الأوّلي (Soft) العقلي و النفسي و السلوكي الذي أودعه الله في كينونته و حامله الأساسي أجهزة وعائه الجسمانيّ (Hard) وهذا يسمح بتمكينه من توظيف الكثير من أدوات القدرة و المقدرة الذاتيّة التي تتطوّر و تنمو في فضاء الجسد ذي الأبعاد الشتّى، المنتمية لفضاء العائلة، المنتمي لفضاء الجهة و المنتمي لفضاء الوطن الموجود في الإقليم...في حلقات و دوائر تحوي الكبرى فيها الصغرى و تشبه إلى حدّ بعيد بناء الدمية الروسيّة «الماتريوشكا»، وهذا يمكّن الإنسان من امتلاك الأساس الأوّلي الذي يساعده على التفاعل و التكيّف و البناء (مع / في) المجال الذي يحيط به و الذي يختلف باختلاف الإستبطانات الداخليّة للفرد و مساحة مدركاته العقليّة المستغلَّة و الموظّفة من أجل نموّه وكدحه و صعوده لملاقاة ربّه، (لكلّ الوجود ربّ واحد عالم، عليم ومعلوم، لكن في سعينا لكلّ منّا في مساحة إدراكه الدنيويّة ربّ يختاره ليسعى إليه) فردا أو جماعة (بما يوفر له من إمكانيات اللغة- العلاقات - التفكر و التعلّم و التذكّر...)…
لكن مع الأسف ومع الزمن و مع المعرفة المضافة والتقدّم، مع انفتاح الآفاق و اتساع مجال الإبصار، مع التطوّر المهاري و التعلّم النظري و الإنزياح اللساني، يبدأ العقل الإنساني بالتخلي (بشكل واعي و بشكل طبيعي) بالمراكمة، مع انتاج رصيد لا يستهان به من طقوس و فنون ومناسك للإستعباد و الخضوع (من شتّى المنابت و في شتّى الثقافات) و التفنّن في بناء معابد فكريّة و نفسيّة و حواضن ثقافيّة تمارس فيها المسوح والتزكية بإسم الأرباب المتنوّعة و المختلفة التي اختارتها الثقافات أو الأوعية الثقافيّة التي وجد فيها ذاك الإنسان، تظهر في شكل صور و سلوكات تُؤصَّل في واقعه…
فإن كان هذا التخلي و المراكمة في ظلّ من العبوديّة لله وحده فقد سلم الإنسان وتحرّر في ظلّ إشراف سوفته (برنامجه) الأوّلي المودع في هارده ( وعائه) و نجح بكدّ من أجل تعرية روحه من خبائث مكتسباتها للإلتحام من جديد مع معطيات ومقدّمات الفطرة الخالصة الأولى و الصافيّة و الجوهريّة أو بنك البرمجيات الأولى، المتطلِّعة و المنفتحة على الآفاق الكونيّة الرحبة.... وهذا الرجوع و الإلتحام الروحي في شكل ( parade nuptiale)هو عمليّة إعادة تزويد في الفضاء و الصيرورة و إعادة استرجاع المبادئ الأوّليّة و الأساسيّة للبرمجة الأوّلية الفطريّة، وهي عمليّة مركّبة و روحيّة إنسانيّة التي تنهل من منابع التعليم الآدمي الأوّل و تستمدّ من فيض إشعاعات المعرفة الجوهريّة الأولى (نفسيّة، ذهنيّة و سلوكيّة: و علّم آدم الأسماء كلّها)، وهي عمليّة متكرّرة ومتواترة لا يحصل الكمال فيها بل تعتريها النواقص و الارتدادات نتيجة للطبيعة الانسانيّة العجولة في ظلّ مكتسباته من العلم والتعلّم...
أمّا إن كان رصيد الاستعباد يَطَّوَّفُ بالإنسان خارج ناموس العبودية لله وحده و بعيدا بحلقات عن الفطرة الخالصة...فإنّ السلام و التحرّر و الحريّة الذي يسعى إليهما الإنسان ليسا سوى تهويمات نفسيّة بعد استرجاع لأضغاث أحلام و سيجد نفسه محروما من لذّة العبوديّة لله و في ظلّ ظلمة قاتمة لعبوديات مختلفة لمخلوقات الله....
فالتحرّر الحقيقي إذا... هو السعي الدائم و الرجوع الحثيث من أجل الإقتراب أكثر من الجبلّة الخالصة أو الفطرة التي فطر الناس عليها...أو بصفة أوضح الرجوع للتناظر مع صفحات فطرة طفولتنا الأولى التي انبثقت من الرحم الإنساني و لم تكتسب الآثام بعد، قبل السعي و الإنتقال ( في الزمان و المكان)…
و على هذه المقدّمات النظريّة يمكن طرح بعض الأسئلة التي لا تطلب أجوبة بالقدر التي تسعى فيه لتوليد أسئلة مرافقة أخرى يمكنها من تعبئة الفراغات و الثغور و الشقوق المرافقة لصيرورة الحقل الإنساني في الفضاء الكوني المتّسِع ( في الأبعاد الكونيّة و في المعارف العقليّة حوله...).
فهل الإنسان بطبيعته ( جوهرا ومكتسبات) حرّ بإطلاق؟ وهل تُسْعِفه قدراته المكنونة فيه ( وهي ليست من خلقه أو إنتاجه بل هو مستودع لها و لم يختر نشوءها و لا بدايات زرعها في كيانه…و قدرته تمس فقط ما يمكِّنُه من تطويرها واستغلال تفرعاتها) من أن يتحرّر من كل الروابط و الضوابط التي تؤثّر فيه إن كانت من الخارج أو من الداخل، لكي يفعل ما يريده؟ وهل كلّ ما يعتقده و يريده صناعة من نفسه ولا دخل لمؤثرات خارجيّة فيها؟ بصفة أوضح هل يستطيع الإنسان تطبيق حريّته على مكوّنات جسمه و روحه و حدود عقله؟ و هل باستطاعته اختيار نوعيّة خلاياه و المقدرات و القدرات الكامنة فيها؟ و هل له حريّة تغييرها إن عنّ له ذلك؟ و هل ترسم حدود حريته مع حدود طاقته الذاتيّة؟ أم هي مطلقة وليست لها حدود في الزمان والمكان؟ من يختار له و من يمنحه إذا حدوده و مكامن قدراته؟ وهل هذه الحدود و القدرات محدودة أم قابلة للتطوّر و الإفاضة في حدود معلومة لا نعلمها في الزمان و المكان؟
إذا،هل الانسان حرّ بإطلاق و غير مسؤول خارج الفضاء العام لفطرته الأوّليّة خارج الربوبية و الألوهيّة؟ أم هو حرّ و مسؤول داخل هذا الفضاء الإنساني المتّسع؟وهل يوجد فضاء مهما كان، في الكون ( ولو اعتقادا)، خارج تأثير ناموس الربوبية؟ بمعنى آخر هل هناك حدود لملكوت الربوبيّة؟ وهل للإنسان القدرة على فهم نواميس الكون و قوانينه، وهل يمكن لهذه القدرة إن وجدت أن تتجاوز الفهم إلى حدود الأرقى فيها البناء و التغيير؟ ما هي حدود تأثير الانسان في العالم الصغير و الضئيل( لايمثل جناح بعوضة بالمقياس الكوني) الذي يضمّه و يحويه؟ وهل تكون الحريّة أمرا لا تشكيك في بدريتها ( اكتمالها كالبدر) عند ممارستها في غياب المسؤولية؟ أم هي حريّة مقيّدة بضوابطها و حدودها الداخليّة التي ساهمت في تشكّلها و نشوءها؟ وهل الحريّة بالنسبة للفرد - الذات هي ممارسة كلّ ما يعتقده خارج حدود المنظومات القائمة حوله ( بيولوجيّة و جغرافيّة- فيزيائيّة و ثقافيّة - تاريخيّة بما فيها التصوّرات و الأفكار و السلوكات حول الذات و حول المجتمع…)؟و إذا كان ذلك كذلك فهل تسعفه امكانياته التي ليست بالضرورة من صنع يديه من الخروج و التحرّر من المنظومات القائمة حوله و فيه؟
أسئلة قليلة من كثير لا تتطلّب أجوبة بل تتطلّب تفكير و تدبير و تحكيم لعقل لم تكن له حريّة اختيار ذهنه و لا اختيار جيناته و أسلافه و لا بِنْيات هويّاته…و لا كيف تنهل حدود حريّته من حدود مسؤوليته أو بمعنى كيف تتوسع مساحة حرّيته باتساع رقعة مسؤوليته؟