عام تسعين من القرن الماضي زارنا في مثل هذه الأيام إلى سيدي بوزيد زعيم سياسي كبير وترأس اجتماعا شعبيا بدار الثقافة.. كان يبشرنا بـ "مستقبل مشرق للعرب بعد أن أصبحت الكويت محافظة رقم تسعطاش"!!!
كنت أيامها في مقتبل العمر.. تجربتي السياسية تتسمى صفر أمامه.. لكني كنت مسلحا نظريا... (كذا كانت السياسة).... رفعت يدي طالبا الكلمة ساعة فتح باب التفاعل.. لم ترهبني الأجواء العاطفية الجياشة وويل لمن تسول له نفسه بحديث يسيجه العقل.. قلت:
قد أتفهم كل الأعذار لصنيع الضم... لكني لا ولن أقبل مطلقا ربط الوحدة العربية والمستقبل العربي بالضم والقوة، فكل الدول العربية اليوم هي دول إقليمية وكل ضم تعمد إليه دولة منها على حساب دولة أخرى يسمى احتلالا لا وحدة، فضلا عن كون صنيع الضم قد أصبح سلوكا لا تاريخيا، فاليوم تتمتع كل الدول العربية بحماية ما يسمى بالأمم المتحدة وسيصطدم صنيع الضم بهذه العوائق وسيكون ذريعة لتدمير الدولة التي مارست الضم... الوحدة مسؤولية الجماهير لا النظم مهما طال الأمل والألم.. (كنت أردد ما قرأته والتزمته في نظرية الثورة العربية للمفكر المشتبك عصمت سيف الدولة)... العاقبة كلكم تعرفونها... (
تذكرت هذه الوقائع وأنا أقرأ تباعا هذه الأيام مواقف من يفترض أنهم ديمقراطيون أو هكذا يقولون عن أنفسهم... يجلدون قيس سعيد بلا رحمة متناسين أنهم من هللوا وكبروا وحرضوا على اغتصاب الدستور والدوس على ديمقراطية وليدة كنا على مدار عشر نشتبك لتجذيرها ويشتبكون لتدميرها... أذكر أني عدت للفايسبوك (بعد غياب دام أربعة أشهر لظروف صحية تتعلق بمصاعب في النظر ) مباشرة بعد البيان الحنجوري المتترس وراء دبابة تقتحم البرلمان.. قمت بفيديو لايف مدته تسعا وثلاثين ثانية قلت فيه:
"هذا انقلاب وسنقاومه ولو نفذته الملائكة، فأزمات الديمقراطية تعالج بمزيد من الديمقراطية وليس بدوسها تحت حوافر الدبابات".
لم نكن ندافع عن منظومة كنا مستفيدين منها كما وصمنا قطعان الهائجين والمرتزقة ولم نكن نرجم بالغيب.. فقط كنا مسلحين نظريا بنفس الأدبيات التي احتكمنا إليها عام تسعين في مواجهة دبابات الضم وقطعان المناشدة التي طالت الزعيم السياسي الكبير الذي نراه اليوم يقاوم الانقلاب ويدافع عن ديمقراطية ساهم في حمل الحطب ووضعه في طريقها منذ لحظاتها الأولى بعيد محفل 23 أكتوبر الذي شارك فيه وكنا أقلية نحذر من عواقبه كونه جرى في قلب السيستام وبشروطه مما يجعله يحمل بذور الانقلاب عليه... وقد كان... فما 25 جويلية سوى الدرجة الوقحة من الانقلاب على الثورة الديمقراطية التي سفهت تنظيرات استشراقية سفيهة حول العجز العربي عن الثورة في سبيل الديمقراطية وقبر المستبد الإله!!!
أنك تعتبر غارة دبابة دولة إقليمية غاشمة على دولة عربية "وحدة عربية"، وتعتبر دوس دبابة على برلمان منتخب وعلى دستور فرّك منظومة الحاكم الإله "تصحيح مسار" وبعد بعام تصبح أبو الثوار معناه أنك حــمار يحمل أسفار؛ يا ساحبي الڨعر.
أنك تتظاهر دفاعا عن رفيقك المعتقل بتهمة الإرهاب وترفع شعار "الحرية لغسان والسجن للإخوان" معناه أنك جزار لا علاقة لك بالحرية والأحرار...
قريبا جدا جدا سيخرج غسان حرا طليقا وتبقى أنت مجرد هِتّيفة طــحان. وستستأنف الديمقراطية مسارها وسط صحاري التوحش الأعرابي رغما عن حمّالي الحطب ودبابات الصخب التي لم تنتصر إلا على شعوبها العزلاء.
الحرية أولا وأخيرا عقيدة؛ مش آلهة حلوى يا وثنيين!!!