ما ميز العشرية المنقضية بما هي عشرية الحيوية السياسية الأبرز في تاريخ تونس المعاصرة، هو توسع دائرة المنشغلين بالشأن العام حيث غابت تلك العبارة الوجِلة المرتعدة "مانيش نحكي في السياسة"، وأصبح الجميع يحكي في السياسة... وبقدر ما تصدرت النخبة الطلابية لعقود السبعينات والثمانينات والتسعينات المشهد، بقدر ما ضعف خطابها وانغمست في صراع مستند إلى خطاب سياسوي خال تماما من التفكير عدى ما حفظوه من شعارات تلك العقود المنقضية مما حوّل البرلمان والمنابر التلفزية إلى ساحات تناقر لاستكمال معاركهم الطلابية المفوتة.
في خضم هذا التناقر تعرفت على المناضل عبد الحميد الجلاصي الذي يُعرّف كونه مهندس الماكينة التنظيمية لحركة النهضة زمنذاك، لكن الطريف أني تعرفت عليه في ساحات العقل البارد، كان سي عبد الحميد حريصا على حضور كل الندوات الفكرية التي تتناول بالنقد والتفكيك للتيارات" الإسلامية"؛ يحضر وينصت بانتباه لافت، ينصت أكثر مما يتكلم ويساجل…
سلوك أثار فضولي للاقتراب منه ومواصلة النقاش بشكل ثنائي... مناضل ودود هادئ منفتح، لديه قابلية لسماع النقد بابتسامة وهدوء يثيران حنقك... هذا رجل صعب الاستفزاز، كذا كنت أقول عنه في داخلي.. حتى كانت مراسلة منه ومكالمات متكررة طرح فيها علي تقديم كتاب يستعد لنشره، قلت له هذا تشريف وتكليف، لكن لماذا أنا بالذات، وهناك من هم /ـن أقدر مني؟! اخترتك أنت لأنك تنقد الجميع ولا تجامل أحدا وأريدك أن تغرز فيه مخالبك النقدية بلا أدنى رحمة ولا مجاملة، أريد أن أرى وجهي في مرآة لا سلطوية معادية لكل أشكال السلطة. وكانت الحوارات بيننا حتى صدور الكتاب.
الجميل ليس قبول التقديم كما هو بل صداه في الكتاب حتى كاد التقديم يكون تجنيا لا نقدا.
أتابع منشوراته على الفيسبوك، تشدني بقوة الصور التي ينشرها صحبة رفيقة دربه المناضلة الصلبة منية إبراهيم، صور رومنسية كأنهما شابين عاشقين وخصوصا صورة الأرجوحة في الحدائق العامة كأنهما طفلين، فأتساءل إلهي هل هذا الرجل يعوض لحبيبة قلبه ما فات أم تراه يستبق ما هو آت؟!
ويبدو أن صنيعه كان يستبطن الاثنين، تعويض الحبيبة التي انتظرته طيلة سنوات سجنه الطويلة، واستغلال لحظات السلام والحرية استباقا لما هو آت... ألسنا نحن العرب نخاف ساعة الفرح قائلين اللهمَّ أعقبه خيرا... وهاهو سي عبد الحميد مرة أخرى في زنازين سرقت أجمل سنوات عمره!!!
وهاهي حبيبة قلبه Mariem Jelassi الجلاصي تدون يومياتها في غيبة والدها تشد الأزر وتفاخر بأبيها… ألم تقل العرب كل فتاة بأبيها معجبة؟!.
منذ اللحظة الأولى لـ :
• انقلاب الدبابة على_السياسة
• و انقلاب المراسيم على الدستور
• و انقلاب التعليمات على القانون،
لم يرتبك عبد الحميد الجلاصي، لم يناشد ولم يخاتل بل قال: هذا انقلاب؛ هذه جريمة؛ هذا خطر داهم… لم يكن عبد الحميد نائبا ولا وزيرا ولا عضو حزب حاكم حتى ينط قواد ويصمه بالمدافع عن مصالح خسرها ومواقع خسرها، فالرجل قد استقال من حزبه الذي أعطاه زهرة عمره وانخرط في حلم المشترك الوطني.
ذاك هو صديقي وأخي عبد الحميد الجلاصي الذي يزج به انقلابي نكرة دعي في زنزانة عرفها وعرفته منذ عقود…