كما الندوة الأولى نجحت الندوة الثانية في استضافة سياسيين وأكاديميين من مختلف مكونات المشهد السياسي والثقافي بمختلف مرجعياتهم الدستورية واليسارية والاسلامية والعروبية، يجمعهم المشترك الديمقراطي والاحتكام إلى دستور 2014 رفضا لتياري الشعبوية والفاشية.
كذلك أمّنت الندوة الثانية مداخلات يعقبها نقاش يجمع بين المواقف السياسية المؤصلة فكريا ردا على عشرية طغى عليها تهافت الفراريزم والبريكولاج التلفيقي الذي خلط الأوراق ورذل السياسة مما سمح بالصعود الشاهق للشعبوية الرثة التي استثمرت ذلك وأججت الغرائزية المناشدة لظهور "مهدي منتظر" يخلصها من وجع الرأس الديمقراطي (الفطام السياسي) ويعيدها ألى الرعية الباحثة عن أب يحميها من عواصف المواطَنة بما هي تحمل لمسؤولية المقاومة وجعل الحكام موظفين تحت رقابتها.
تولى الصديق الحبيب بوعجيلة تأطير الجلسة الحوارية ضمن المسار الذي راكمه مواطنون ضد الانقلاب (رد الاعتبار للسياسة في تدبير العمومي خصوصا بعدما تبين لمن ارتموا في قارب الشعبوية للحرقة الجماعية أو حرضوا عليها أنهم أصبحوا في قبضة جنون عاصف).
تدخل الأستاذ عصام الشابي برمزية المناضل الديمقراطي منذ عقود مذكرا بانخراطه المبكر في مقاومة الانقلاب ومذكرا كونه ظل طيلة العشرية الماضية في صف من يحرسون المسار الديمقراطي ضد الانحراف، طارحا مبادرة لعقد مؤتمر وطني للانقاذ يجمع كل المنخرطين في مقاومة الانقلاب ساسة (حزبيين) ومنظمات مدنية وقادة رأي ومنتجي أفكار قائلا كون ذلك ضروري قبل اطلاق حوار وطني يكون جامعا بالضرورة لكن قبل نضج ذلك لا يمكننا الانتظار إذ لابد من إرسال رسالة واضحة لكل من يهمهم مصير البلاد أنه ليس صحيحا الدعاية التي تشيع كونه لا يوجد بديل سياسي يتحمل مسؤولية الانقاذ ووضع حد لحالة العبث السوريالي بالبلاد والعباد.
التدخل الثاني أثثه عميد المحامين أيام الثورة الأستاذ عبد الرزاق الكيلاني الذي رد بشكل رادع على كل من يطعنون في وجاهة الأرضية النضالية التي يلتقي حولها اليوم مقاومو الانقلاب والتي تجمع مختلف ألوان الطيف السياسي، مذكرا كون أول لجنة تشكلت بعد أربعطاش جانفي التقى على أرضيتها اليساري الوطدي والعمالي والقومي العربي والاسلامي والعلماني والنسوي، وكون استكمال صياغة دستور 2014 شهد عناقا بين الوطدي والنهضاوي (وإن كنت ناسي أفكرك).
التدخل الثالث أمنته نائبة البرلمان المنتخب المنحل بقوة الدبابة، الأستاذة آمال الورتتاني ذكرت فيه بمرجعيتها التجمعية الرافضة لغياب الحرية زمن بنعلي حتى في ردهات المحافل التجمعية رغم مناخ الاستقرار الذي كانت تعرفه البلاد زمن حكم التجمع، مذكرة أنه ليس صحيحا أن كل التجمعيين كانوا شركاء في التضليل والتطبيل بل كانت تعلو الأصوات المطالبة بتحصين الاستقرار بالتمكين للحريات السياسية عوضا عن الهروب إلى الأمام الذي أوصلنا إلى انهيار السلطة وتأسفت على ذلك ولم تسم ما وقع ثورة لكنها قالت أما وقد وقع ما وقع علينا الكف عن العناد (غمزا لتيار الفاشية) وواجبنا القبول بالتحول الديمقراطي الذي تمنيناه بحصل والسلطة قائمة، وتوجهت للانقلابي برسالة واضحة كون اعتقال زملائها النواب ومحاكمتهم مرتين مدنيا وعسكريا في نفس القضية لن ينفعك ولن يخرجك من "الهفهوف"؛ وأنه عليك بالأبيضين الحليب والسكر عوضا عن بيع الأوهام، مؤكدة على كون البلاد تحتاج مصالحات وتسويات تاريخية حقيقية يتحمل فيها كل من أخطأ مسؤوليته لكن قدرنا العيش المشترك على قاعدة الديمقراطية لا الغطرسة التي لم تنفع سابقا ولن تنفع حاضرا.
تفاعل الحضور كان في نفس وهج ما قدم، كاشفا عن طاقات نضالية جديدة مقتدرة وضوحا وخطابة واشتباكا ميدانيا، كثفه حضور المحامية الشابة لدى محاكم التعقيب الأستاذة Ines Harrath طاقة تفيض صدقا أسطوريا وتعبق بالمحبة والايثار وخلق الثوار، ركزت تدخلها على أمرين، لا للنكوص إلى مربع التظلم الحقوقي مهما عظمت التضحيات والأكلاف في مواجهة الانقلاب وموجهة رسالة عتب أشد من الرصاص على من اعتبرتهم يقاومون الانقلاب ويخاتلون في علاقتهم ببعضهم داعية إياهم إلى الكف عن" المخاوزة".
تدخل المهندس المناضل الاجتماعي سي صغيّر الصالحي صاحب رائعة الاستعمار الداخلي (مؤلف ضخم وموثق بشكل مكثف فضلا عن مرجعياته المعرفية الديكولونيالية) ركز في تدخله على واجب عدم تغييب طبيعة الأزمة التي اعتبرها ليست فقط سياسية.
ركز الأستاذ نور الدين العلوي على ما يذكر به دوما كون أدوات الفعل السياسي هي الأحزاب ويتوجب ألا يتكرر فخ الارتهان إلى المنظمات المرتهنة (غمزا إلى تجربة سابقة راعية للحوار تحت رعاية العهر الفرنسي).
كان تدخل الأستاذ محمد الحامدي (الذي حضر لأول مرة كاسرا حاجز الاصطفاف الهووي) مركز على واجبي النقد الذاتي الجماعي ووجوب الجنوح لقيم العيش المشترك شرطين للتقدم باطمئنان.
كذلك تدخلَي الدكتور عبد اللطيف المكي والأستاذ عجمي الوريمي المؤكدين على فكرة النقد الذاتي من الجميع والجنوح ألى المشتركات قاعدة لارساء ديمقراطية قادرة على العيش الذي لا يطمس الصراع.
ساهمتُ بتدخل برقي أكدت فيه كوني لست سياسيا محترفا، وكون خطابي دوما قصووي (جذري) لكن على الأرض لا أنظر إلا للنصف الملآن من الكأس، فمن يريد البناء عليه بالانطلاق من المشترك لا من رغباته. كذلك ذكرت كون الانقلاب على أكلافه الباهضة اجتماعيا وسياسيا وعلى مستوى سمعة البلاد والرصيد الرمزي الذي أضافته لها الثورة، لكنه أهدى البلاد فرزا سياسيا جديدا خلصها من ثنائية "ثوار/أزلام،" الذي كشف عن أمراء حرب يتهارشون ونقلها إلى ثنائية أشد وضوحا ديمقراطيون في مواجهة فاشيين، مما مكن الديمقراطية من حامل اجتماعي ونخبوي عريض قادر على حراستها مستقبلا ليسد الباب أمام أي نزوة انقلابية جديدة، مذكرا الجميع بالتواضع وعدم المزايدة على بعضهم فلا أحد (قوميا أو يساريا أز اسلاميا)" جاب الديمقراطية في زهازو". ومذكرا كذلك كون من مكر التاريخ أن النزوع الديمقراطي في تونس ما بعد الاستعمارية ولد في رحم الحزب الدستوري الحاكم ساعة خرج عنه من أسسوا حزب الدينقراطيين الاشتراكيين. وختمت تدخلي بالتذكير كون غيبة الشروط التاريخية لنشأة الديمقراطية في الغرب لدينا لا يبرر الارجاء الديمقراطي الذي يهرف به المستبدون وقواديهم، فالتاريخ لا يكرر نفسه، والديمقراطية في بلاد العرب لا تحتاج سوى ثوار يفرضونها /ديمقراطيين يحرسونها.
تدخل الأستاذ الازهر العكرمي، تميز بعبارة لافتة شجاعة أخلاقية وسياسية صراع التنافي كشف لي أنه لا يمكنني التقدم دون عيش مشترك مع من كنت أريد الغاءه أو يريد الغالي.
فضلا عن تدخلات أخرى تجدونها منشورة في صفحة دستور 2014 مرجعنا.
التدوينة طالت، أكتفي بهذا وفي التدوينة القادمة أكتب لكم تفاصيل عميقة على هامش الندوة الصحفية الاسنادية لمن طالتهم الأحكام العسكرية المروعة في قضية سبق أن حوكموا فيها أمام القضاء المدني.