الآن وقد هدأ غبار المتزاحمين على رجم مؤرخ وهو يصرخ عاليا، "لم أزر يوما فلسطين بنصفيها الـ 48 والـ 67، لم أستدع يوما مؤرخا اسرائيليا إلى جامعة منوبة. أندد عاليا بالغطرسة الصهيونية وملتزم مطلقا بحق الشعب الفلسطيني بالعودة وتأسيس دولته المستقلة"... هذا مكتوب في صفحته على الفايسبوك وعلى صفحات عشرات المواقع وسمعته بأذني على هواء عديد الإذاعات.
إذن أين المشكل الذي بسببه طالته آلاف اللعنات مما حدى بالمجلس العلمي لجامعته إلى حرمانه من رتبة أستاذ متميز؟! راج على صفحات الفيسبوك" أفيش" مستل من موقع جمعية فرنسية تنظم ندوة علمية بعنوان" من التقليد إلى الحداثة، اليهود والدين في تونس 1881- 1956"؛ ويشارك في فعاليات هذه الندوة باحثون من مختلف الجامعات والجنسيات بمن فيهم باحثون من جامعات "اسرائيلية".
ولأن الحمر المستنفرة لا تقرأ، فقد روجوا للخبر كون "جامعة منوبة المطبّعة ترتكب الخيانة العظمى مرة أخرى"!!
ولا أحد من الحمر المستنفرون كلف نفسه نقرة يتيمة على مغارة علي غوغل ليطلع بنفسه على أصل الحكاية وله بعدها أن بجرد حسامه من غمده ويقيم الحد على مؤرخ لطالما صرخ، حددوا لنا أولا معنى التطبيع لنقيس على ضوئه صنيعنا الأكاديمي !!!
طبعا في زمن المراسيم والتخوين واستباحة الجميع باسم التقومج الوطنجي الفاشستي المتقاسم بين أعلى هرم السلطة وصولا إلى الحشود الغرائزية المستنفرة وما بينهما من أحزاب البوط العسكري، أتفهم ذعر جامعة منوبة ومجلسها العلمي ومسارعته لابداء موقف متبرئ، لكني لا اتفهم أبدا التسرع ارضاء للموجة الشعبوية الفاشستية في أعلى هرم السلطة أو قاع المجتمع الملاعب به!!!
من حق جامعة منوبة أن تقول ألا أحد يمثلها وأن كل المشاركين يتحملون مسؤولياتهم باعتبارهم أفرادا لا يمثلون المؤسسة رسميا. لكن ليس من حقها تجريد أستاذ من استحقاق علمي!!!
هذه سابقة خطيرة، قد تفتح على الجحيم، غدا قد يتم تجريد أستاذ(ة) من استحقاق علمي بدعوى الخيانة الوطنية فقط لأنه قال لا في وجه الشعبوي الرث مغتصب السلطة محتكر الوطنية مخوّن الجميع!!!!
عموما لنترك الجامعة لأهلها، ولنتحدث سياسة:
متى يفهم هؤلاء القومجيين الفاشست وما جاورهم من "يسار" فاشي متقومج كون ما يفعلونه هو التطبيع مع المشروع الصهيوني الإبادي العنصري، ألم تقم الأطروحة الصهيونية على المظلومية التي يتعرض لها اليهود وأنه من حقهم وطنا قوميا يقيهم التنمر والعزل والاقصاء؟!
ماذا نسمي تخوين كل دارس لأحد مكونات الأمة ولا نقول "الاقلية اليهودية" ولا "الجالية اليهودية" فذاك قاموس قومجي اقصائي وجاهل (منطق الدولة الأمة الوستفالي)، فكل أمم الأرض متعددة متنوعة المكونات والترياق هو المواطنة لا الصهر القومجي الإبادي ثقافيا أو بشريا.
ما معنى تخوين كل من ينظم ندوة علمية حول اليهود العرب ووصمه بالتطبيع؟!
هل الوطنية والمقاومة تعني تسليم يهود الأمة إلى الصهيونية بدعوى أنهم خونة وبدعوى السخافة القائلة "لا فرق بين صهيوني ويهودي"!!!
طيب ماذا لو نقول لكم لا فرق بين التقومج الصهيوني وأي تقومج آخر. أليس التقومج الصهيوني رد فعل وخطاب سياسي مشتق من جنس الخطاب القومجي؛ ألم تنشأ الصهيونية في رحم التقومج الوستفالي في أوروبا؟!
ما هو العرض الجاذب الذي قدمه المتقومجون العرب ونظراؤهم المتأسلمون ليهود الأمة ومسيحييها وشيعتها حتى لا تستفرد بهم الصهيونية والصفيونية و" الصليبية" الغربية؟!
ما معنى الحملة التخوينية الظالمة التي تعرضت لها مؤخرا البروفيسورة رجاء بن سلامة ووصمها بالمطبعة منذ أشهر قليلة، فقط لأنها نظمت ندوة علمية في رحاب المكتبة الوطنية (أيام كانت مديرتها) تحت عنوان "لتتكلم اللغات القديمة" فحرّفها الجهلوت الفاشست قومج البوط ووطد ماوي متقومج "لنتكلم اللغات القديمة" وكأن رجاء تدعو إلى العودة لاستعمال اللغات القديمة بديلا عن اللغة الرسمية للبلاد حاليا، والحال أن الندوة تتطرق إلى ماضي هذا البلد المتسم بالتعدد الذي وصل حد كتابة اللغة العربية بأحرف عبرية ووصل حد كتابة لسان التمازيغت بالحرف العربي.
ترى أين الجرم وأين التطبيع في هذا؟! هل رأيتم أكاديميين "إسرائيليين" ضيوفا مشاركين؟!
أليس التطبيع الحقيقي هو الضيق بهذا التعدد والتنوع وتخوينه أو إنكار وجوده أو تركه مشغلا واهتماما للجامعات ومخابر البحث "الإسرائيلية" وغيرها والحال أنها مواضيع تونسية وعربية أولا؟!
وهل أن تونسيا أو عربيا يتناول جريمة الهولوكوست بالبحث معناه مطبعا؟!
لنتفق أولا، أليست الهولوكوست جريمة مروعة في حق الإنسانية؟! لماذا ننكرها أو نخوّن الخائض فيها؟! هل نحن من ارتكبها؟!
أليست فرصتنا لبيان عنصرية الغرب الذي لفظ مواطنيه مرتين، مرة بالعزل في الغيتوهات ومرة بالمحارق ومن تبقى حيا بالطرد إلى فلسطين على حساب حقوق شعب فلسطين، وتحويل ضحايا المحرقة إلى نازيين جدد يبيدون شعب فلسطين؟!
ما هذا الجهل المتقومج المتمركس طورا والمتأسلم طورا؟!
نعم الكيان الصهيوني مشروع عنصري إبادي يتوجب مقاومته، ومن لم يستطع فأضعف الإيمان مقاطعته اقتصاديا وأكاديميا وسياسيا.
لكن ما معنى التطبيع قبل الحديث عن واجب المقاطعة؟! هل حضور ندوة علمية في جامعة ما خارج الكيان الصهيوني يسمى تطبيع فقط لأن باحثا اسرائيليا مشاركا فيها بورقة علمية؟! هل نترك جامعات العالم أسيرة السردية الصهيونية فقط لأن باحثا/باحثين اسرائيليين من ضمن علمائها وباحثيها المشاركين؟!
هل كان إدوارد سعيد الذي شق عصيانا ابستمولوجيا في قلب أعتى الجامعات الأميركية التي تعشش فيها السردية الصهيونية مطبعا فقط لأنه قارع واشتبك مع عتاة الصهاينة في قلب تلك الجامعات انتصارا للسردية العربية الفلسطينية؟!
هل أن الأكاديميين الفلسطينيين (داخل الخط الأخضر) الذين يشتغلون داخل جامعات الكيان مطبعون، والحال أنهم الأشرس في التصدي للأسرلة انتصارا لعروبة فلسطين. صادف سنة 2012 في حديث ثنائي مع الدكتور عزمي بشارة سألته بشكل صريح عن موقفه من التطبيع، فأجابني دون تردد بالرفض المطلق للتطبيع العربي مع الثكنة الصهيونية، فسألته بشكل أكثر دقة، وفلسطينيو الـ 48؟! ابتسم وأجاب: يا أمين، فلسطينيو الـ 48 يعيشون داخل "دولة إسرائيل" مما يجعل رفض التطبيع لا يتمثل في التعامل اليومي مع مختلف إداراتهم وإنما رفض التطبيع يعني الرفض المطلق للأسرلة ومقاومتها، وهذا ما ينخرط فيه فلسطينيو الداخل على كل الأصعدة.
أعتقد أن التطبيع الأكاديمي هو تعامل جامعاتنا مع الجامعات الصهيونية بمشاركتها أشغالها أو تشربكها في أشغال جامعاتنا. وفي هذا السياق نستحضر تجربة المقاطعة الأكاديمية التي خاضتها بعض الجامعات الإنجليزية تضامنا مع الحق الفلسطيني وفضحا لوحشية السياسات الإسرائيلية فالمقاطعة تهدف إلى حشد العالم من أجل إنهاء قرن من الابادة والتوسع والفصل العنصري وشطب الوجود الفلسطيني.
مقاطعة الجامعات الإسرائيلية معناه إدانة تواطئ المؤسسة الأكاديمية مع فضاعة سياسات حكومتهم ومقاطعتهم. فالأكاديمي الحق في كل أرجاء العالم هو من يتحدى فضاعات حكومات بلده وإلا فهو جزء لا يتجزأ من فضاعات تلك الأنظمة. ولعل اللافت للنظر كون أبرز متزعمي المقاطعة الأكاديمية لجامعات كيان الابارتهايد الإبادي أكاديمي "إسرائيلي" انحاز لشرف الحقيقة وشرف البحث العلمي وشرف الأكاديميا (إيلان بابيه الذي دفع ثمنا باهضا ولم يتراجع قيد أنملة).
عود على بدء؛
-هل زار المؤرخ الكزدغلي جامعات الكيان، هو ينكر ذلك مطلقا (هل لديكم عكس ذلك لنقيم عليه حد الشرف الأكاديمي؟ )
-هل استدعى المؤرخ الكزدغلي أكاديميين من جامعات الكيان إلى رحاب جامعة منوبة باسم البحث العلمي، هو ينكر ذلك مطلقا (هل لديكم عكس ذلك لنقيم عليه حد الشرف الأكاديمي؟).
أما أن يكون كل "جرمه" هو تأطير رسائل وأطاريح حول تاريخ ونمط عيش يهود تونس في رحاب جامعات تونس، أو شارك في فعاليات علمية نظمتها جامعات غربية حضر فيها باحثون من جامعات الكيان. أعتقد أن المطبع الحقيقي هو هذه الحمر المستنفرة التي هيأت بتنطعها وحمقها كل الظروف لانفصال مكونات الأمة أو فرارها نحو الصهيونية والصفيونية و"الصليبية" الغربية.
هذا موقفي العروبي المقاوم الرافض للهيجان الجاهل الذي يقترفه متقومجون أو متأسلمون أو متمركسون لاغتيال كل من يرفض الانخراط في سياسات غبية لدفع كل مكونات أمتنا إلى الفرار بجلدها.
وأقولها عاليا: لن نحرر فلسطين قبل محاصرة الكيان الغاصب بدول ديمقراطية يتمتع فيها كل ساكنتها بحق المواطنة الكاملة دون تمييز، ساعتها لن تكون الصهيونية ولا الصفيونية ولا "الصليبية'الغربية جاذبة لأحد.