فيتو أمريكي آخر لإسقاط مشروع قرار تقدمت به الجزائر يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة. استعمال الفيتو مرة أخرى لم يكن أفضل الخيارات بالنسبة لأمريكا ولذلك كثفت الضغط من خلال بعثتها لدى الأمم المتحدة، وذهبت إلى حد ممارسة الضغط على مستوى أعلى من خلال الاتصالات التي كان يجريها وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بنظيره الجزائري أحمد عطاف من أجل سحب مشروع القرار وهو ما رفضته الجزائر.
الفيتو في هذه الفترة الحرجة من حرب إبادة يجري نقلها عبر شاشات التلفزيون، يعني عزلة دولية لأمريكا، وله تبعات أكثر سلبية من الحالات السابقة لاستعمال الفيتو منذ بداية الحرب، وقد جاء القرار الذي صدر عن محكمة العدل الدولية، والذي أكد وجود مخاطر حقيقية لحدوث حرب إبادة، ثم عدم احترام الكيان الصهيوني للالتزمات التي فرضتها عليه المحكمة، يضع أمريكا في مواجهة العالم وفي مواجهة القانون الدولي أيضا الذي يجري الدوس عليه علنا في فلسطين.
بالنسبة للجزائر قد يصبح مشروع القرار والتمسك به علامة فارقة في مسار السياسة الخارجية في مرحلة تشهد نهاية نظام عالمي (نظام ما بعد الحرب الباردة) دون أن تتضح معالم نظام جديد، وقد تكون هذه المواجهة الصامتة مع أمريكا في مجلس الأمن إشارة إلى إدراك جديد لواقع دولي معقد لم تعد مفاهيم التحالف والصداقة التقليدية قادرة على الإحاطة به وتحديد خط السير فيه.
لقد تميزت سياسة الجزائر الخارجية خلال العقد الأخير بكثير من الجمود، وفي مناسبات عديدة بدت وكأنها مقيدة بتصورات الحرب الباردة المتجاوزة، كما أن المبالغة في الحذر من استعداء القوى الكبرى قيد حركة الدبلوماسية الجزائرية بشكل كبير وافقدها روح المبادرة في محيطها الإقليمي المباشر المتفجر، وعلى الصعيد العالمي الأوسع، ويمثل التذكير المتكرر على أننا أصدقاء الجميع ولا أعداء لنا أبرز المؤشرات على هذا الحذر.
رفض التنازل في مجلس الأمن هو علامة على الاستعداد لتحمل الكلفة المترتبة عن هذا الموقف، وهذا يتطلب أيضا موقفا مرنا وقابلا للفصل بين القضايا الدولية وتجاوز التصنيفات الجامدة للدول، ويجب أن يتحول هذا إلى أساس للسياسة الخارجية للبلاد ضمن تصور واضح للمصلحة العليا للدولة ووضع الخطط الناجعة لتحقيق هذه المصلحة والدفاع عنها.
ليست القضية الفلسطينية وحدها التي تحتاج إلى موقف شجاع وإدارة ذكية للعلاقة مع الدول الكبرى، ففي محيطنا المباشر دخلت قوى كبرى توصف بالحليفة، كلاعب أساسي يؤثر مباشرة على أمننا القومي، ويتعين التعامل مع هذه القوى بطريقة مشابهة لما جرى في معركة مجلس الأمن مع مراعاة الفوارق الكبيرة بين طرح مشاريع قرارات في مجلس الأمن وبناء خطط استراتيجية وسياسة خارجية تفتح الباب أمام احتكاك مباشر بقوى مؤثرة وتجمعنا بها مصالح.
قد يكون مهما التعامل مع ما جرى في مجلس الأمن بطريقة موضوعية وعدم تحويله إلى مادة للدعاية السياسية الموجهة للاستهلاك المحلي، وأهم من ذلك أن ندرك أن السير على طريق استقلالية السياسة الخارجية يتطلب تعزيز القدرات الوطنية الاقتصادية والتحرر من التبعية، ووضع أسس دولة الحق والقانون التي تستند إلى إرادة شعبية تحرر صانع القرار من الابتزاز الخارجي.
عالم اليوم معقد وتتداخل فيه المصالح ولا مكان فيه لمن يحرص على إرضاء الجميع لأن من يفعل ذلك سيحل عليه سخط الجميع.