لكل دولة سقف حرية" هكذا يرى وزير الاتصال محمد لعڤاب، وهو أستاذ سابق في كلية الإعلام ومارس الصحافة في سنوات سابقة وبقي يكتب مقالات الرأي في صحف جزائرية وخليجية إلى عهد قريب جدا.
تبدو المقولة مطابقة للواقع تماما، ففي زمن التضييق على حرية الصحافة في دول العالم الذي يسمي نفسه "حرا" يتخلص المسؤولون في النظم التسلطية من كل حرج ويتجرؤون على عقد المقارنات مع وضع وسائل الإعلام في الدول الغربية كما فعل الوزير أكثر من مرة منذ بداية حرب الإبادة الصهيونية على الشعب الفلسطيني قبل سبعة أشهر، غير أن المفارقة أن حديث وزير الاتصال جاء هذه المرة تعليقا على حادثة كانت تبدو خطأ في التقدير يمكن أن يقع فحولها تدخل الوزير إلى قصة سريالية تلخص بأمانة واقع "الجزائر الجديدة".
الذي حدث هو أن وزارة الاتصال وجهت الصحافيين من خلال مجموعة على منصة واتساب بعدم تناول إضراب الأساتذة الذي دعت إليه نقابة كناباست، وقد كان تسريب التوجيه ونشره على فيسبوك مع تنبيه آخر من الوزارة بعدم التعامل مع هذا التوجيه كخبر ينسب إلى الوزارة، بعد أن سارع بعض الذين تلقوا التوجيه إلى نشره ضمن الأخبار التي تحمل وسم "هام" و"عاجل"، سببا في تعليق وزير الاتصال الذي قدم تبريرا مثيرا للدهشة لما حدث عندما قال إنه هو صاحب فكرة التوجيه وأن كل شيء يجري في شفافية وختم كل هذا الخليط بين الواقع والخيال بنشر تصريحه على موقع وزارة الاتصال!
العصا والخبز
قصة مجموعات واتساب هذه معروفة لدى الصحافيين، وهي في الأصل تسهيل لعملية التواصل بين المسؤولين وخلايا الاتصال على مستوى الوزارات والمؤسسات لتقديم المعلومات التي قد يحتاجها الصحافيون في عملهم وتغطية الأحداث التي تهم الجمهور، غير أن ما نشر عبر مجموعة الواتساب الخاصة بوزارة الاتصال لا علاقة له بالمعلومات، ونصه الحرفي :"لأن الإضراب المعلن عنه في قطاع التربية لا معنى له مقارنة بالتدابير التي أقرها رئيس الجمهورية لفائدة القطاع بما فيها القانون الأساسي مع تزامنه مع فترة امتحانات نهاية السنة، فإن وزارة الاتصال توجه بعدم إيلائه أي اهتمام".
لا يحتاج توجيه الوزارة إلى أي شرح أو تأويل، لكن الوزير قال إن الوزارة لم تأمر أحدا بعدم تغطية الإضراب أو الكتابة عنه، والعجيب أن الإضراب تم التعتيم عليه فعليا لأن رأي مسؤولي وسائل الإعلام كان من رأي وزير الاتصال بأن الإضراب بلا قيمة ولا يستحق التغطية.
لم تعد وسائل الإعلام بحاجة إلى من يسكتها أو يمنعها من تناول القضايا التي تشوش على الإنجازات، فصحافة الواتساب هي التي تطلب توجيهات الحكومة حتى تكتب وتبث ما يريد المسؤول قراءته وسماعه ومشاهدته، "قولوا لنا ما يجب أن نكتبه" هذه عبارة سمعناها في مقابلات السيد تبون مع الصحافيين، ورددها الوزير مرة أخرى في تصريحاته الأخيرة، وهي تختزل كل التشويه الذي يطال ممارسة مهنة الصحافة عندما تغيب المعايير المهنية وينسى الصحافي من يكون وما يجب عليه فعله.
يطلب مسؤولو وسائل الإعلام، وفي مقام أدنى بعض الصحافيين، التوجيه الواضح والصريح لتجنب الغضب الذي يعني قطع الأرزاق بمنع الإشهار العمومي، وهذا بيت القصيد، فالسلطة تريد صوتا واحدا وصورة واحدة، وبعد إسكات المشاغبين الأكثر شراسة بالسجن ترك للحرص على "الخبزة" أمر إسكات البقية حتى صارت الصحافة مهنة من لا يفرق بين "الخبر" و"التوجيه".
وزارة الحقيقة في 2024
لا يتراجع السيد لعڤاب أمام أي شيء، فأولويته كما قال قبل ثلاثة أشهر أمام مسؤولي الإذاعات الجهوية هي "العهدة الثانية للسيد تبون" وفي ذلك الحين كانت توجيهاته واضحة بأن تنخرط وسائل الإعلام العمومية في حملة انتخابية لصالح شخص لم يعلن إلى حد الآن نيته الترشح لها بل ورفض إعلان ذلك في آخر مرة سئل فيها عن الموضوع بشكل صريح ومباشر.
ما يفعله الوزير يلخص الوضع الذي آل إليه الحكم في الجزائر، فالسباق المحموم نحو المناصب، والسعي إلى البقاء فيها هدم الحدود الفاصلة بين السلطة والدولة، ومثلما تحولت الخدمة العمومية في وسائل الإعلام إلى دعاية للسلطة القائمة فقد تحول تقديم المعلومات التي تساهم في تغطية موضوعية للأحداث إلى توجيهات فظة بالتعتيم على حدث ما وتتفيهه، وكذلك تحولت الوظيفة السامية التي يفرضها المنصب السياسي من وضع السياسات وتنفيذها إلى تقديس الأشخاص والدعاية لهم.