أثارت كلمة المندوب الروسي بمجلس الأمن التي تبنى من خلالها ادعاءات الاتحاد الدولي للملاكمة الذي يرأسه روسي بشأن الملاكمة الجزائرية إيمان خليف استياء كبيرا لدى الجمهور الواسع، وتم التعامل مع ذلك الموقف الذي رد عليه المندوب الجزائري بالمجلس مباشرة في تلك الجلسة، كمؤشر على ما سماه البعض بالغدر الذي تعرضت له الجزائر من قبل "الحليف" الروسي وتم ربط هذا الموقف بعلاقة روسيا بما يجري على حدودنا الجنوبية وتحركات حفتر الذي يسعى إلى السيطرة على مدينة غدامس ليصبح جارنا المباشر والثقيل، وكانت الخلاصة التي استنتجها البعض هي أن الجزائر تتعرض لمؤامرة وأنها لا تكاد تجد من يقف بجانبها في هذا الظرف العصيب.
تخبرنا مفردات "الغدر" والحليف" و"المؤامرة" بقراءة حدية ومشحونة بالعاطفة لا يمكنها أن تفسر لنا ما يجري، ونجد قاعدة هذه القراءة في الخطاب الرسمي الذي جعل من التخويف من الخطر الخارجي مبرره لمنع النقاش حول القضايا السياسية والاقتصادية، وهذا الخطاب هو الذي أسبغ على روسيا وصف "الحليف" رغم أن الجزائر ظلت منذ الاستقلال حريصة على النأي بنفسها عن الأحلاف وكان عدم الانحياز شعارها الأثير حتى في أشد مراحل الاستقطاب التي شهدتها العلاقات الدولية، وكان الانزلاق نحو استعمال هذا الوصف الدقيق أحد مظاهر قلة الكفاءة والجدية.
لا شك أن الجزائر تواجه تحديات حقيقية، وليس من المبالغة الحديث عن مخاطر خارجية، لكن الموضوعية تقتضي الانتباه إلى أن المشكلة ليست في وجود مؤامرة ضد الجزائر لكنها في كون العالم الذي نعيش فيه مليء بالمخاطر التي نواجهها كما تواجهها بقية دول العالم والفارق هو في القدرة على الاستجابة بالكفاءة والجدية التي تتطلبها الأوضاع.
روسيا تخوض مواجهة شاملة مع أمريكا والغرب تصفها بأنها قضية حياة أو موت، وفي هذه المواجهة تكون الأولوية دائما لمصلحة روسيا. وإذا تطلب الأمر الدوس على مصالح دول "صديقة" فستفعل ذلك دون تردد، ومن هذه الزاوية يجب أن نقرأ سلوك روسيا في ليبيا والساحل وقبلهما في سوريا وصولا إلى قصة التلميح إلى حالة الملاكمة الجزائرية في مجلس الأمن حيث كان المستهدف بهجوم المندوب الروسي الغرب عموما واللجنة الأولمبية والدولة المنظمة للأولمبياد مع محاولة لصب مزيد من الماء في طاحونة ترامب الذي يأمل الروس في عودته إلى البيت الأبيض، وفي كل هذا تتحول الجزائر إلى مجرد ضحية توضع تحت عنوان الأضرار الجانبية.
قد يكون مفيدا أن ننتبه إلى أن روسيا ليست الوحيدة التي تتصرف بهذه الطريقة، فتركيا التي مجدها الخطاب الرسمي ووضعها فوق معظم دول العالم ومنحها مزايا تفضيلية في الاستثمار والتجارة، تقدم للجيش المالي المتحالف مع فاغنر المسيرات الفعالة التي جعلت باماكو تتوهم بأنها قادرة على إعادة كتابة تاريخ مالي ورسم خريطته من جديد.
لم تفعل تركيا ذلك للمساس بمصالح الجزائر، لكنها بكل تأكيد لم تفكر كثيرا في رد فعل الجزائر عندما رأت أن مصالحها تقتضي تزويد مالي بالمسيرات وأن تكون جزء من علاقة معقدة مع روسيا الحاضرة عبر فاغنر والإمارات التي تدفع المال بسخاء.
مرة أخرى سنكون ضحايا تحت عنوان الأضرار الجانبية لأننا نعتقد أن "الحليف" لا يجوز له أن "يغدر" وهذا دليل على أننا لم نبرح فترة الحرب الباردة، ما زلنا نعتقد أن صغار القرن الماضي ليس بوسعهم أن يكبروا، وأن الأفواه التي اطعمناها قبل خمسين سنة والقرى التي أنرناها والمدارس التي بنيناها لا يمكن أن يخرج منها من يرى العالم بغير أعيننا.
العالم تغير ومستمر في التغير بسرعة جنونية، وحتى القوة الأعظم وهي أمريكا اقتنعت بأنها لم تعد قادرة على تسيير الجنوب الفقير بالتخويف والعقوبات، بل يجب، حسب ما ذهب إليه مستشار الأمن القومي جيك سوليفان في مقاله في فورين افيرز (عدد أكتوبر نوفمبر 2023) تقديم حوافز واحترام استقلالية قرار هذه الدول لعلها تقترب أكثر من أمريكا وتنخرط في سياساتها وحتى لا تنزلق نحو منطقة النفوذ الصيني.
لقد أدركت الأمم أن العالم ليس مقسما بين أبيض واسود (علاقة الهند والصين خير مثال)، وأن ألوان الطيف الكثيرة والمتداخلة تتطلب كفاءة كبيرة لتسيير العلاقات مع الفاعلين في هذا العالم، أما الذين يعجزون عن الاستيعاب ومسايرة الإيقاع فمصيرهم أن يكونوا مجرد أضرار جانبية في كل المعارك التي ستخاض على أرضهم أو في محيطهم رغما عنهم ودون أن يستشيرهم أحد.