والذي يقوم على مبدأ دحر الخصم والانتصار عليه انتصاراً حاسماً، وحين يصل منطق الغلبة إلى طريق مسدود وتعجز القوى المتصارعة عن حسمه يبدأ بالظهور منطق الحوار لحل الصراعات بالسلم وخاصة حين تصبح الخسارات في الأرواح والأرزاق فادحة.
وهذا كلام ناتج عن رصد تجارب الصراعات على النحو الذي أشرنا إليه. والمتأمل الآن في حال الصراعات في كلٍ من العراق وسوريا واليمن وليبيا يجد نفسه أمام مآزق تاريخية تبدو عصية على التجاوز الآن، وإن كانت ستجد حلها في النهاية.
ففي اليمن مثلاً خاضت جماعة الحوثي، بتحالف مع الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح معركتهم لاحتلال اليمن انطلاقاً من ذهنية الغلبة ومبدأ الغلبة، وحين اصطدمت طموحاتهم القائمة على مبدأ الغلبة، ووصلوا إلى طريق مسدود بفضل المقاومة والجيش اليمني وعاصفة الحزم حُملوا على القبول بالحوار وفق مقررات الشرعية الدولية والحوار الوطني، ولكن الحوثيين وصالح يحاورون وفق مبدأ الغلبة، فكيف لحوار أن يقوم والمحاور ذو ذهنية الغلبة.
وقس على ذلك ما يجري من مباحثات بين تحالف المعارضة والثورة من جهة والنظام السوري من جهة أخرى.
يذهب وفد المعارضة بذهنية المحاورة والحوار الذي يقوم على مبدأ «سوريا تتسع للجميع « في حال الانتقال إلى سلطة العقد الوطني والنظام الديمقراطي عبر مرحلة هيئة الحكم الانتقالية المتفق عليها والصادرة بقرار من مجلس الأمن، ويأتي وفد النظام بذهنية الغلبة والخطوط الحمر، محاولاً أن يفرض على وفد المعارضة والثورة بالعودة إلى بنية النظام القديم.
ولأن الحوار مستحيل أن يجري بين من يمتلك ذهنية الحوار ومن يمتلك ذهنية الغلبة فإن النتائج ستكون صفراً.
وليس الأمر بمختلف فيما يجري في العراق حيث سلطة الغلبة تريد أن تحتفظ بكل السلطة مع الحديث عن الحوار الوطني.
أما في ليبيا فحدث ولا حرج. فالجميع يخوضون الحوار وفق مبدأ الغلبة وما يولده من حالة نفسية متعصبة.
لا يجري الحوار أبداً بين الخصوم إلا وفق ثلاثة أسس ضرورية: الاعتراف، الحق، المصالح المتبادلة. فأن يأتي أحد أطراف الحوار وهو يرفض مسبقاً الاعتراف بالآخر فمجيئه للحوار من قبيل رفع العتب فقط أو الخبث الأحمق..
فكيف تحاور من لا تعترف به وأساس الحوار هو الاعتراف المتبادل كما قلنا، والاعتراف بالآخر هو اعتراف بحق الآخر الذي تحاوره، أما إذا أنكرت حق الآخر فإنك لن تصل إلى المصالح المتبادلة التي سينجزها الحوار.
والحق أن الحالة المدنية الراهنة التي تسود العلاقات البشرية قد تجاوزت على نحو واسع ذهنية الغلبة ولا سيما في البلد الواحد، إذا من الصعب تصور وطن واحد يعيش أهله في حال الغالب والمغلوب، والمنتصر والمنهزم، فالحوار يقود إلى عيش مشترك وسلم أهلي ونزعة وطنية مشتركة.
ولعمري إن الذين ينظرون إلى الوطن وفق مبدأ الغلبة لن يكونوا في نهاية الأمر إلا عبئاً على الحياة، لأن منطق الدولة والشعب والوطن هو منطق الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية المشتركة، والتي تنتج معنى الانتماء.