1)- المقدمة: التناقض بين التاريخ والمشروع الأيديولوجي بتنوعاته:
يعيش العرب - منذ عصر النهضة وحتى اللحظة الراهنة - التناقض الذي لا يني يكبر بين التاريخ والمشروع.
أعني بالتاريخ السيرورة الموضوعية الواقعية للعرب: زوال الأمبراطورية العثمانية وتحول ولاياتها العربية إلى مستعمرات، الاستقلال السياسي وتكون الدولة القطرية تحقيقاً للتجزئة الاستعمارية، احتلال فلسطين وقيام الدولة الغريبة على أرضها، التخلف كظاهرة معندة، التبعية كعلاقة غير متكافئة لصالح الغرب الامبريالي. وعلى مسار هذا التاريخ وقعت أحداث أخرى لا يستقيم وصف التاريخ دونها:
اقتطاع أجزاء من الأراضي العربية وضمها إلى إيران وتركيا وإسبانيا، كظاهرة الانقلابات العسكرية، الحروب التي حدثت بعد العدوان الثلاثي على مصر: حرب حزيران، حرب تشرين، الحرب المهزلة بين العراق وإيران، حرب لبنان، حرب الخليج، نشأة الثورة الفلسطينية وتطورها، أشكال الوحدات المخفقة، ظهور النفط ودور الدولار النفطي في المنطقة، أشكال المصالحة مع العدو، كامب ديفيد، اتفاق أوسلو، اتفاق وادي عربة، استعار ظاهرة العنف السياسي الأصولي - الديني.
وأقصد بالمشروع: أشكال الأيديولوجيات والأفكار التي نشأت بوصفها طريقاً لتجاوز هذا التاريخ والإمساك بتلابيبه، الأيديولوجيا القومية وتعيناتها المختلفة، الأيديولوجيا الإسلامية، وتنوعاتها، الأيديولوجيا الاشتراكية - الماركسية بكل ألوانها، أيديولوجيا التحديث بكل أشكاله.
وارى التناقض في أن أياً من أنواع المصالحة لم يتحقق حتى الآن بين المشروع والتاريخ حيث يجري التاريخ بمجرىً مختلف عن مجرى الأهداف.
فلا الدولة العربية الواحدة قد تحققت، لا تحت راية القومية العربية ولا تحت راية الجامعة الإسلامية، ولا دولة الهلال الخصيب قامت لتضم أرض سوريا الطبيعية، ولا فلسطين تحررت، ولم تعد إلى العرب أي أرض سلبت منهم. ولا الديمقراطية وجدت طريقها إلى الحياة، ولا الاشتراكية قامت كنظام اقتصادي اجتماعي، والتحديث ما زال يحبو كسيحاً.
والتبعية لا نستطيع منها فكاكاً حتى الآن.
2)- علة التناقض بين التاريخ والمشروع الأيديولوجي:
وفي البحث عن علة هذا التناقض تتنوع الأجوبة. فمنا من يلقي باللائمة على الغرب، ونفر يحملون المشروع المسؤولية، وآخرون يتهمون الشروط الموضوعية وفريق يشير إلى بنية العقل العربي، وجماعة ترى العلة في الارتداد عن الإسلام. ومهما كانت الأجوبة من حيث اختلافها صحيحة أو خاطئة. فإنها ولا شك تنطوي هي الأخرى على مشروع بديل، وإنها لدليل على أن التاريخ المعيش مرفوض ولم ينجب حتى الآن اقتناعاً به، ولا أعتقد أنه سينحيه إطلاقاً.
لقد دعا العروي إلى استيعاب منجزات التقدم الليبرالي(1) ونادى حسن صعب بتحديث العقل العربي والانتقال من صناعة الكلمات إلى صناعة الأشياء(2). وصرخ حافظ الجمالي الإنسان أولاً(3). ونشط الكثيرون لاستحضار التراث وتجديده لإحداث ثورة ثقافية تصل الماضي بالحاضر(4). ويهيب عباسي مدني بالإسلام لاستعادة الفردوس المفقود(5). وتتعالى صيحات الدعوة إلى الديمقراطية، وأخيراً يطل علينا بعضهم قائلين العلمانية العلمانية(6).
وهكذا نجد جهازاً من المفاهيم الجديدة القديمة حاضرة في الخطابات العربية السياسية - الاجتماعية والفلسفية الراهنة، تحديث العقل، الليبرالية، الإنسان، الديمقراطية، العلمانية، التراث، الحل الإسلامي، خطابات تتجه نحو المستقبل لصياغة مشروع أو مشاريع لمواجهة التاريخ.
ولا شك أن انفصالاً بين الخطاب الراهن والخطاب الحديث والمعاصر لم يقم حتى الآن. ولكن إبراز هذه المفاهيم إنما يشير إلى رغبة في تجاوز المشروع القديم القائم على الوحدة القومية والاشتراكية.
لن أقف في هذه الدراسة عند كل الجوانب الكثيرة للخطاب السياسي الراهن. فهذا ما يحتاج إلى جهد أكبر وزمن أطول. بل سأحصر دراستي في مفهوم واحد وهو العلمانية.
3)- تعريف مصطلح العلمانية:
ما المقصود بالعلمانية عامة، ولدى العلماني العربي خاصة؟
أود أن أشير في البداية إلى أن الكتاب العرب قد اختلفوا في نطق هذه الكلمة وبالتالي في كتابتها. فمنهم من كتبها بفتح العين ومن من كتبها بكسرها.
فقد نشر الفيلسوف زكي نجيب محمود مقالاً تحت عنوان «عين فتحة عا»(7) راداً العلمانية إلى العالم الذي نعيش فيه وليس إلى العلم. بينما كتب أحمد حاطوم «العلمانية بكسر العين لا بفتحها»(8) أي راداً العلمانية إلى العِلم.
أما فؤاد زكريا، فيعتبر أن النقاش حول العلمانية بفتح العين أو بكسرها ضجة مبالغ بها لأن كلا العينين يؤدي إلى الآخر(9).
وكتب البروفسور عزيز العظمة أستاذ كرسي الدراسات الإسلامية في جامعة اكثرتر في بريطانيا - والذي درس في جامعات ومؤسسات عربية وأجنبية عدة(10). كتب يقول في كتابه العلمانية من منظور مختلف: «وليس تاريخ العبارة هو وحده المتسم بشيء من الغموض، فمن غير الواضح أيضاً كيف تم اشتقاقها، وهل كان الاشتقاق من العلم علمانية بكسر العين، أم من العالم، العلمانية بفتح العين بناء على اشتقاق غير سليم، ولكن الأرجح أن الاشتقاق الأول هو الأولى فهو ذو أساس ثابت في حاضر اللسان العربي المتحقق وهو مندرج في قاعدة صرفية صريحة، وليست محاولات الشيخ عبد الله العلايلي وغيره لإرجاع العلمانية إلى العالم مقنعة على وجه العموم، كما أنها قريبة العهد متأخرة على واقع العبارة… والعلمانية بكسر العين إذن هي العبارة المعتمدة في هذا الكتاب، على أن يمكن مبدئياً، واستناداً إلى المضامين التاريخية للعلمانية اشتقاق عبارتها من العالم أو من العلم»(11).
إن الاختلاف حول نطق المصطلح ليش شكلياً لا سيما حين يؤدي نطقها بكسر العين أو بفتحها معنيين مختلفين. وعندها فإن إيجاد العلاقة بين العَلمانية والعِلمانية يحتاج إلى بحث وليس الأمر من قبيل تحصيل حاصل.
والثابت أن الكلمة في اللغة الإنكليزية ليست العلم Science بل Scular العالم الدنيوي وبالتالي فـScientism و Secularism نزعتان تؤديان معنيين مختلفين، فإذا ما ترجمنا المصطلحين بمصطلح واحد هو العلمانية فإن الحدود تضيع بين هاتين النزعتين. وعندها يجب أن نعود إلى سياق النص للوقوف على المعنى المقصود (بالعلمانية). وحتى لو كانت العلمانية ترجمة لكلمة Laicism التي تعني عامة الجمهور المتميز عن الايكروس فإنها لا تفيد معنى العلمانية.
ولكن من أين جاءت كلمة العلمانية بفتح العين لاسيما أن اثنين من جهابذة اللغة هما زكي نجيب محمود والعلايلي، استخدماها بفتح العين.
لو رجعنا إلى ما قاله العظمة، فسنجده يرى أن اشتقاق العلمانية غير سليم وبالتالي فهو يخطئ العلايلي. وما أدراك ما العلايلي.
ولكن اشتقاق الكلمة علمانية لم يكن من العالم بل من العَلْم بمعنى العالم.
ولقد جاء في قطر المحيط لبطرس البستاني: العَلْم = العالم. العلماني للعامي الذي ليس بإكريليكي.
كما جاء في المعجم الرائد العَلم والعالم. أما المعجم الوسيط الصادر على مجمع اللغة العربية في القاهرة، فقد جاء العَلماني نسبة إلى العَلْم بمعنى العالم وهو خلاف الديني والكهنوتي.
إن معنى الكلمة اللغوي لا ينفصل في حقيقة الأمر عن مضمونها السياسي - الاجتماعي والعَلمانية كمفهوم هو نقيض الأكريليكية. إنها جواب عن مشكلة - لا ينفرد بها تاريخ أوربا فحسب، وإنما هي جزء تاريخ أمم كثيرة ومنها العرب.
من مختارات الجمل
الهوامش:
(1) انظر: العروي العرب والفكري التاريخي، بيروت 1973.
(2) انظر: حسب صعب، تحديث العقل العربي، بيروت.
(3) انظر: حافظ جمالي، عربي يفكر، دمشق 1982.
(4) انظر: النزعات المادية والتراث والتجديد ومن التراث إلى الثورة الخ.
(5) انظر: عباسي مدني وحتمية الحل الإسلامي.
(6) انظر: عزيز العظم، العلمانية من منظور مختلف، بيروت 1992.
(7) زكي نجيب محمود، عن الحرية تحدث، نقلاً عن د. خالد منتصر «العلمانية هي الحل» أدب ونقد، عدد 108، 1994.
(8) أحمد حاطوم: العلمانية بكسر العين لا بفتحها، الناقد، العدد 20، 1990؟
(9) انظر: خالد منتصر، العلمانية هي الحل، أدب ونقد عدد 108، أغسطس 1992.
(10) هكذا يعرف عزيز العظمة نفسه على قفا كتابه العلمانية من منظور مختلف.
(11) عزيز العظمة، العلمانية من منظور مختلف، بيروت 1992، ص17 - 18.