لمّا تزل مشكلة دور الفرد في التاريخ موضوعَ تفكير وتأمل، وهي بالأصل متعلقة بالإرادة وحركة التاريخ الموضوعية، فهل ينطوي التاريخ على معقولية تحتاج إلى خدّام من البشر ليعينوها في الواقع، أم أن البشر يخلقون أهدافهم ويعملون على تحقيقها، وعندها يتكون التاريخ؟
لقد وجد ماركس حلًا بأطروحة مكثفة لما يريد قوله، في كتابه الثامن عشر من برومير بونابرت، حين قال: “إن البشر يصنعون تاريخهم، ولكنهم لا يصنعونه على هواهم، فهم لا يصنعونه إلا في شروط لم يختاروها…”. لقد أراد ماركس في هذه الأطروحة البشر من النزعة الإرادوية من جهة، ومن النزعة الحتمية من جهة أخرى. غير أن وعي الفرد بدوره في حركة التاريخ على غاية كبيرة من الأهمية، وبخاصة إذا اختار أن يكون من الفاعلين التاريخيين.
ففي اللحظات الكبرى من التاريخ العاصف الذي يعلن ولادة عالم جديد، مجتمع جديد، وطن جديد، ونمط حياة جديد؛ يتوحد الفرد الفاعل في هذه اللحظات بالهمّ الكلي توحدًا يمنح الذات سعادة الإحساس بالمعنى، فأن تجد معناك في فاعلية حرة مساهمة في صناعة الوجود، كما يجب أن يكون، يعني أنك وجدتَ مبررًا لمعنى وجودك الآن. إنك وقد تحررت من اللامبالاة بالعالم، والتأفف السلبي منه، وانخرطت في الهم الكلي، تكون قد خبرت لذة السير على طريق الحرية، ومتعة أن يكون لك ولو حجر صغير في بنائها العظيم.
الهمّ الكلي يصبح همًا فرديًا، ويرتفع حزنك على عذابات البشر ومآسيهم، البشر الذين لا تعرفهم عن قرب، إلى أعلى درجات السمو. المبدع هنا أنك، وأنت مندرج بالهم الكلي، تنتصر ذاتيتك الفردية لأن اندراجك حرّ، ولم يحملك أحد عليه، وهذا أول انتصار تحققه الذات التي اختارت أن تكون فاعلة في حركة التاريخ.
هذا الذي يفسّر الآن أن كلّ ثائر –على اختلاف نشاطه- يرى نفسه ممثلًا شرعيًا للوطن، وصانعًا حقيقيًا له، وهذا الذي يفسّر أيضًا انفجار الحسّ النقدي لكل ما تراه الذات مثلبًا من مثالب السيرورة التاريخية في الوقائع والأفراد، إلى الحد المبالغ به في بعض الأحيان. وهذا الذي يفسر ولادة الأنشطة المدنية بكل أشكالها، وهذا الذي يؤكد أن الفرد لا يمكن أن تنتصر اجتماعيته ومدنيته ومبالاته بالشأن العام، إﻻ إذا انتصرت ذاتيته الحرة.
بالمقابل، فإن تحطيم الفرد وتحطيم شعوره بذاته وإخافته بكل أساليب القمع يؤدي إلى انسحابه من الحياة الاجتماعية – المعشرية، وهذا الانتصار العظيم للذات في فعلها الجماعي الحر هو الذي سيؤسس لانتصار الدولة الحديثة ذات النظام السياسي الديمقراطي.
لا شك أن سرعة ظهور الوعي الذاتي والشعور بالحرية سيعقد سرعة بناء الوحدة والاتفاق، بين الجماعات المتمردة مع الاحتفاظ بالاختلاف، وقد يؤخرها، لكن للجديد دائمًا عقباته التي يتكفل الزمن بتجاوزها.
إن اتحاد الغضب الجمعي، وتحوّل الغضب إلى روح جماعة تطرح التجاوز الأرقى، يعني أن الشعب قد تكوّن ويتكون في حقل الكفاح الذي أدّى إلى انتصار الذات، ألم ينظر الفلاسفة إلى أن وحدة الآلام مقومٌ من مقومات الأمة، وأضيف التعبير عن هذه الآلام؟
لا شك أن الطريق طويلة أمام اكتمال التاريخ المطلوب، وتحقيق الأهداف الذي يختلط فيها الواقعي مع الطوباوي، والرومانسي مع الحقيقي، لكن انتصار الذات الحرة هو الشرط الأول لانتصار الأهداف والتاريخ المرتبط به، وإذا قلنا مع هيجل بأن التاريخ ليس سوى مسار وعي الحرية لذاتها؛ وجب أن نضيف أن التاريخ لا يعي حريته من دون الفرد الذي وعى حريته ودوره في تحقيق وعي الحرية لذاتها.