مرّ العرب، منذ بداية القرن العشرين حتى احتلال العسكر الريفي للسلطة في سبعينيات القرن الماضي، بالمرحلة الرومانسية في الوعي بالعالم المعيش والمأمول، فالرومانسية خليط من العواطف والآمال والأفكار الأيديولوجية والتمرد على المألوف التي تظهر في أنواع متعددة من الخطابات: الفني، الأدبي، الفلسفي، السياسي، وفي هذه المرحلة التي ذكرت لم ينج أي كاتب أو أديب أو مثقف سياسي من هذه النزعة المريحة للنفس.
لقد ظهرت أكثر ما ظهرت النزعة الرومانسية في واقعتين: في بكائيات الأغنية العربية، وفي جموح الأيديولوجيات القومية والشيوعية والإسلامية.
المتتبع للطقس الذي سيطر على الأغنية العربية: أم كلثوم وعَبَد الوهاب وفريد الأطرش وعبد الحليم وفيروز وصباح فخري والموسيقيين الأفذاذ، سيجد ذلك الحب الذي يشع من قصائد، سواء كتبت باللغة الفصيحة أو المحكية، بطابعه الرومانسي التذللي المعذب للحبيب الملآن بالهجران والشوق والحنين والذكريات والسهر والأمل والإحباط والحزن والبكاء والدمع وتوسل الخلاص، والتي راح المغني يشدو بها عبر موسيقى مفعمة بالشجن.
صحيح أن الرومانسية ماهية العشق، ولكنها تظهر هنا في صورتها الأكثر فجاجة، حيث العاشق سآل عواطف، وشكواه مازوشية إلى أبعد الحدود، وهذا يظهر أكثر ما يظهر في بكائيات الثلاثي أحمد رامي – السنباطي – أم كلثوم، على وجه الخصوص.
كانت رومانسية الرحبانيين مختلفة عن بكائيات رامي – أم كلثوم – السنباطي وفريد، فقد عكست رومانسية الحب في القرية المسيحية وما شابه ذلك، مستفيدة من الموسيقى الفولكلورية لبلاد الشام. أما الأغنية الرومانسية العراقية الغارقة في الحزن ذي الإهاب النواحي، فحدّث ولا حرج.
مع موت عمالقة الرومانسية الغنائية العربية، ظهر في الثمانينيات ما يسمى “الأغنية الشبابية”، التي شاعت بسرعة، والتي نظر إليها جيل الرومانسيين على أنها نمط من انحطاط الذوق الفني.
لم تتطور الأغنية العربية من رومانسية بكائية إلى غنائية، تعكس العلاقة بين الفرح والحب، بدلًا عن علاقة الحب بالألم والحزن، فلقد كان هجوم الابتذال كاسحًا في مراكز الإبداع الغنائي الموسيقي، بحجة القطيعة مع الأغنية الطربية الطويلة، ولقد ترافق هذا مع سياسة الانفتاح التي لم تنتج إلا برجوازية طفيلية وفئات رثة وضمور في الفئات الوسطى -قلب المجتمع الحي- وظهور نماذج الدكتاتوريين المسخرة، الذين عمموا انحطاطهم الأخلاقي بالقوة. أجل كان المغني المسخرة صورة عن الدكتاتور المسخرة، وصار جمهور الدكتاتور المسخرة الرعاعي هو نفسه جمهور المغني المسخرة.
ليس غريبًا، والأمر هكذا، أن يُطلق على المرحلة الرومانسية اسم (الزمن الجميل)، ويضج الحنين في أرواح جيله أو محبيه. أما الرومانسية الأيديولوجية فقد تمثلت في النزعات القومية والإسلامية والشيوعية، فكانت هذه النزعات خليطًا من الأحلام واليوتوبيا والفاعلية السياسية التي تصل إلى حد التضحية بالذات من أجل الدفاع عنها. ففكرة الأمة العربية الواحدة المتعيّنة في دولة واحدة، سكنت عقول الملايين على أنها فكرة واقعية، وما زال نفر من جيل القوميين الأحياء يتشبث بهذه الرومانسية أيما تشبث، وقس على ذلك فكرة الأمة الإسلامية والعودة إلى عصر الخلافة والحاكمية لله، التي تعتمل في نفوس كثيرين، ولا نعدم بقايا شيوعيين مؤمنين بالماركسية – اللينينية، وحتمية انتصار الشيوعية في عالم العرب والعالم أجمع.
صحيح أن هذه الرومانسيات بدأت تتحطم أمام الواقع، منذ هزيمة حزيران 1967، غير أنها لم تفقد قدرتها على الإغراء، وهذا من طبيعة الرومانسية بالأصل. لقد قضى آلاف البعثيين والإخوان المسلمين والشيوعيين وما شابه ذلك، في سجون السُلط من أجل رومانسية لن تجد النور في بلادنا، لا سيما حين حكمت الطغم باسم هذه الرومانسيات، وحطمت المجتمع والحياة في المجتمعات التي حكمتها.
لقد كنّا -الرومانسيين- نتهم كل خطاب يعيدنا إلى الواقع، بأنه خطاب معبر عن الخيانة للأهداف العظيمة، دون أي إحساس بالزمن، لأن الزمن -مهما طال- سيشهد تحقيق الشعارات العظيمة.
في بداية التسعينيات، كنتُ، وأنا الذي نشأت في بيت قومي – بعثي، وانتقلتُ بوعي إلى ماركسية، ثم إلى ماركسية جديدة، قد ألفتُ كتابًا بعنوان (مصير الشعارات العظيمة)، وكانت الفكرة المركزية في الكتاب السؤال: لماذا انهزمت الشعارات العظيمة؟ ورحتُ أبحث في كيفية هزيمة الواقع والتاريخ المعيش للشعارات هذه.
لكن الرقابة رفضت نشر الكتاب، ولم نحصل على الموافقة، وكان أن تحدثت مع الصديق الراحل الأستاذ حسين العودات حول الكتاب ورفض الرقابة له، فما كان منه، وهو صاحب التجربة بهذه الأمور لكثرة ما مرّ عليه من هموم ومن حالات مشابهة، كونه صاحب دار الأهالي للنشر، إلا أن طلب مني أن أُغيّر العنوان وأدفعه له، وهكذا كان، فجعلت للكتاب عنوانًا جديدًا هو (العرب بين الأيديولوجيا والتاريخ)، وتم نشر الكتاب في دار الأهالي عام 1994، وكان مضمون الكتاب محاولة للتحرر من الرومانسية التي أتحدث عنها الآن، ولكن مع الاحتفاظ بالهم العربي.
تمضي السنون، وكما انهزمت رومانسية الأغنية دون بديل لائق بالفن، انهزمت رومانسية الأيديولوجيات دون بديل واقعي فكري للحياة، يجد طريقه إلى البشر.
إنها المرحلة الأشد مدعاة للتفكير، فبعد الهزائم التي مُني بها عالمنا، على يد الدكتاتوريات العسكريتارية المتخلفة، وعلى يد الوسخ التاريخي الطائفي، يحتاج العقل إلى فترة تأمل عقلي لطرح الأسئلة القابعة في قلب الحياة.