اسماء سريعة الإغراء
قدم العزيز عزيز العظمة بعقل تاريخي حصيف في حوار مع الجديد تحليلاً للظاهرة الأصولية بوصفها ظاهرة ذات أساس اقتصادي عالمي تماثل الحركات غير الأصولية في عالم غير إسلامي في سلوكها الهادف إلى الثروة.
لقد أعاد لي الحوار السؤال عن الحركات الأصولية الإسلامية مرة أخرى ولكن في صيغة جديدة: لماذا يكون الإسلام دائماً أساساً أيديولوجياً لحركات عنفية غاضبة على الواقع المعيش؟
فالتفسير الاقتصادوي، والبحث عن الأساس المادي، والوقوف عن هامشية القوى التي أنتجتها الرأسمالية المتعولمة، كل هذا لا يجيب عن السؤال الذي طرحنا.
ما هذه السرعة العجيبة في انتقال الإسلام من دين شعبي – ثقافي إلى أيديولوجيا سياسية، وحركات عنفية؟ ولماذا لم تأخذ الاحتجاجات العنفية التي ترتد إلى أسبابها المادية صورة غير إسلاموية؟
وعندي أنه دون النظر إلى البنية الثقافية – الجهادية والذاكرة التاريخية التي يتوارثها جمهور ما قبل الحداثة بهذه السرعة في اغتراب عن روح العصر الرأسمالي وبسببه لا يكون فهم للأصولية الإسلامية في صورتها الراهنة أو السابقة عليها.
أجل كيف استطاع رجل دين شيعي قدم من إيران إلى لبنان أن يجر وراءه الطائفة الشيعية حاضنة الأيديولوجيات القومية والشيوعية وينتهي بها الأمر لأن يصبح حزب الله هو الحزب الذي يقود وعيها وسلوكها؟
كيف تأتّى أن تحطم الأحزاب الشيعية في العراق التعايش باستعارات دينية سرعان ما تحولت إلى مصدر لسلوك عنفي؟
كيف انتقل جزء من السنة إلى عالم استعادة فردوس الخلافة المفقود بواسطة داعش وما شابهها في بلاد العرب وبعض بلاد الإسلام الآسيوية والأفريقية؟
هذه الجماعات الأصولية هي جماعات نصية قبل كل شيء، كان يكفي للخطاب في ظل أزمة أو مأزق تاريخي أن يتحول إلى سلطة وسلطة آمرة.
تقول فرضيتي: إن الإسلام السياسي في صورته الجهادية – العنفية هو الأيديولوجيا المطابقة للمأزق التاريخي الذي تشعر فيه نخبة هي بالأساس أيديولوجية وتعبر عنه بالخطاب فتجر وراءها جمهوراً مأزوماً.
لن أعود إلى التاريخ البعيد، بل إلى التاريخ القريب جداً، ففي مصر السادات الذي راح يحطم دولة الرعاية عبر ما سمّي بالانفتاح، وانحدار جزء مهم من الفئات الوسطى إلى الفئات الفقيرة، مع معاهدة سلام مع عدو، وصل المجتمع المصري إلى حالة المأزق فظهرت الحركات الجهادية التي قتلت السادات والتي ظل نظام مبارك يقاومها بعنف مطلق إلى أن استقر له الأمر بعد قبضة حديدية استمرت حتى خلعه، ولكن ما إن عادت مصر إلى المأزق التاريخي بعد الانقلاب على ثورة الساحات حتى عادت الأصولية الجهادية مرة أخرى.
إن الإسلام السياسي في صورته الجهادية – العنفية هو الأيديولوجيا المطابقة للمأزق التاريخي الذي تشعر فيه نخبة هي بالأساس أيديولوجية وتعبر عنه بالخطاب فتجر وراءها جمهوراً مأزوماً
وقس على ذلك ما جرى ويجري في سوريا، فمن قلب الإخوان المسلمين، الحزب السياسي الذي كان ظهوره طبيعياً، نشأت الحركة العنفية الجهادية، الطليعة المقاتلة، كنتيجة للمأزق التاريخي السوري الذي صنعه حكم حافظ الأسد الدكتاتوري، وكما فعل نظام مبارك فعل نظام الأسد وقضى على الحركة الأصولية العنفية، التي سرعان ما ظهرت على نحو أشد بانهيار كليّة هيمنة السلطة على مجتمع قاده الوارث إلى أعقد المآزق التاريخية التي مرت بها سوريا منذ استقلالها.
وحين وصل المأزق الجزائري إلى الحد الأقصى بعد إلغاء نتائج الانتخابات التشريعية التي فازت بها الجبهة الإسلامية تحولت الجبهة إلى حركة مسلحة عنفية.
وليس تدمير بوش للعراق وتسليم الأحزاب الطائفية الشيعية الحكم بكل ما تنطوي عليه من فساد وثأر بدائي عنفي إلا المأزق الذي أنتج داعش.
والآن لماذا يتحول الإسلام إلى أيديولوجيا عنفية كتعبير عن المأزق التاريخي؟ إن الأمر مرتبط بثلاثة عناصر حاضرة في الإسلام كإمكانيات: الجهاد، التشريع، الذاكرة الجمعية. وهذه العناصر ليست حاضرة في أيّ خطاب آخر. ثم إنها عناصر مجتمعة دون النظر إلى ما هو أول وما هو ثانٍ، وفي ترابط لا ينفصم كما سنرى.
الجهاد في الإسلام، بمعزل عن تنوع الفهم له، هو القتال في سبيل الله، كيف صار القتال في سبيل السلطة والخلاص الأرضي قتالاً في سبيل الله؟
إن الثقافة المتكونة على فكرة شرع الله الموجودة في النص القرآني والنبوي والفقهي والمنسية في معمعان الحياة العادية السعيدة سرعان ما تستيقظ في شروط المأزق التاريخي بوصفها أيديولوجيا خلاصية تعزّزها ذاكرة لا تني تتراكم في المدرسة والجامع والأسرة على نحو مستمر، وعندها يصير الجهاد وسيلة الأيديولوجيا الدينية الخلاصية ويضفي معنى كبيراً عليها مما يسمح باستعادة الموت في سبيل تحقيق شرع الله، فالموت في سبيل شرع الله هو حياة أخرى سعيدة، إن الأموات “أحياء عند ربهم يرزقون”.
الحق يجب أن نميز بين الأهداف الخفية للنخبة المؤسسة للجهاد العنفي والمصالح الأرضية التي تتكون عبر الممارسة من جهة والجمهور العام الذي يمشي وراء هذه النخبة مضحياً من أجل أهداف هو مقتنع بها حتى ولو كانت أوهاماً.
تقدم الطليعة الدينية الخلاصية خطاباً مألوفاً وبسيطاً جداً وحاضراً في وعي العامة، فتكون الاستجابة له بلا جهد وبلا عناء تفكير. فجند الله وحزب الله وأنصار الله وما يشابهها من أسماء تحمل المضامين ذاتها أسماء سريعة الإغراء.
لم يعد الخلاص الأرضي قائما في الأرض، الأرض التي دللت على فشل المخلّصين الدنيويين، بل في خطاب يحمل معنى الخلود لمن يُقتل في سبيل الله، ليحقق حاكمية الله على الأرض.
حين كان المخلّص عبدالناصر في ذروة حضوره كمخلّص أرضي وكانت الناس مازالت تنطوي على آمال كبيرة في تحقيق شعاراتها العظيمة لم يكن للخلاص الإلهي الإخواني والتحريري حتى في أساليبه السلمية مكانة لدى العامة والجمهور، وبالعكس حين انهزم الخلاص الأرضي ووصل المجتمع إلى المأزق التاريخي استيقظ الخلاص الإلهي الإسلامي في صورته العنفية.
وعندي إن إهمال الثقافة المتكونة عبر قرون في فهم الأصولية الراهنة يجعل من وعينا بها فقيراً، فالهوية الدينية النائمة التي استيقظت على أصوات قذائف الأميركي على بغداد وقذائف النظام على المدن والقرى السورية وهكذا، في أماكن أخرى من بلدان العرب، ما كان لها أن تظهر إلا بوصفها هوية مقاتلة مسلحة بمعنى مقدس.
والحق يجب أن نميز بين الأهداف الخفية للنخبة المؤسسة للجهاد العنفي والمصالح الأرضية التي تتكون عبر الممارسة من جهة والجمهور العام الذي يمشي وراء هذه النخبة مضحياً من أجل أهداف هو مقتنع بها حتى ولو كانت أوهاماً من جهة ثانية.
وهنا يبرز الوعي لا بوصفه انعكاساً ميكانيكياً للواقع الأرضي وإنما بوصفه فاعلاً خطيراً في إعادة تشكيل الأرض في عملية نكوص تاريخي يشكل بديلاً لأحطّ أشكال الحكم الدكتاتوري في النصف الثاني من القرن العشرين وحتى الآن. لتكتمل دائرة المأزق التاريخي الذي يحتاج إلى استعادة حيوية الفئات الوسطى ذات الوعي التاريخي المتجاوز