أن يكون المرء أيديولوجياً أو مرّ بمرحلة الأيديولوجيا أو لديه بقايا أيديولوجية أو متعاطفاً مع نمط من الأيديولوجيا فهذا أمر طبيعي أو قل هو الأمر الطبيعي . إذ يندر أن تجد شخصاً أوتي حظاً من الثقافة و ميلاً لإتخاذ موقف من مشكلات عالمه المحيط خلواً من الأيديولوجيا أو لم يمر بمرحلة أيديولوجية .
ولا يمكن للجماعات السياسية – عموماً – أن تغدو فاعلة دون سند أيديولوجي يدفعها نحو العمل.
فلهذا نحن لا نتخذ موقفاً سلبياً من الأيديولوجيا مهما كانت ترسيماتها الإيمانية . فالخيارات الأيديولوجية خيارات حرة وتمنح أصحابها نوعاً من الأمل و التافؤل بمستقبل يرسمونه في مخيلتهم , وبخاصة إذا كانت الأيديولوجيات ذات وسائل سلميةٍ لا تعدو الخطاب و الممارسة المدنية .
غير أن هذا لا يعني أن لا يكون لنا موقف أخلاقي من ذاك السلوك الذي تقف وراءه أيديولوجيا القتل التي تسود في لحظات الحروب الأهلية والثورات الإجتماعية والإنهيارات الأخلاقية. فأيديولوجيا القتل هي وصول نفي الآخر حده المطلق.
وعندي أن هناك فرقاً كبيراً بين الأيديولوجيا في بدء نشأتها و ذروة صعودها وبين الخرف الأيديولوجي . سواء تعلق الأمر بخرف الجماعات الأيديولوجي أو خرف الأفراد.
ما الخرف الأيديولوجي ؟ لغوياً الخرف من الفعل الثلائي خرف : فسد عقله من الكبر أو إنقطعت صلته بالواقع.وإنقطاع الصلة بالواقع يخلق أشكالاً متعددة من السلوك المرضي أو اللاسوي في أحسن الأحوال.
إن تعريف الخرف بوصفه إنقطاع الصلة بالواقع يوكد ما نذهب إليه من تعريف الخرف الأيديولوجي.
فالخرف الأيديولوجي لا يصيب الأيديولوجي الذي يبلغ من العمر عتياً وظل متمسكاً بأيديولوجيا فقدت صلتها بالواقع , وليس وقفاً على الجماعات المعنّدة في في أوهامها الأيديولوجية وإنما يصيب الجميع من كل الأعمار و الأزمان.
والحق إن العالم العربي الآن يعاني من عدة أشكال من وجود الخرف الأيديولوجي ومن النتائج الكارثية لخرف كهذا لأن الأيديولوجيا مرتبطة بالسلوك. ولا نستطيع أن نقف عند كل أشكال الخرف الأيديولوجي في مقالة صغيرة ولهذا سنقف عند بعض الأشكال.
فلو تأملنا الأيديولوجية الدينية – الإسلامية التي أسس لها البنا قبل 76 عاماً و إستطالاتها وتعيناتها فلا شك أننا واجدون نموذجاً فذاً للخرف الأيديولوجي . فحكم الحاضر بترسيمات ومفاهيم و قوانين و أعراف عالم قديم أمر مستحيل منطقيا و واقعياً و معرفياً . ولأن الواقع ليس بمقدوره أن يستمرأ أمراً كهذا ولّد هذا الخرف الأيديولوجي حركات عنفيةً تسعى لتكسير رأس التاريخ مستغلة الخرف الأيديولوجي للديكاتاتوريات التي حكمت إنطلاقاً من عقلية الإحتلال وإحتكار القوة.
بل إن الحركات المسلحة التي أخذت أسماء كحزب الله وأنصار الله و جند الله و بوحي من الخرف الأيديولوجي الإيراني والتي تحمل السلاح وتنظم نفسها تنظيماً فاشياً ما هي إلا صور فاقعة من صور الخرف الأيديولوجي.
وليس يقل الخرف الأيديواوجي الشيوعي المستمر بصورته القديمة رغم إنهيار التجربة السوفيتيه أو أشباهها في أوروبا الشرقية. أقول المستمر عند بعض الأفراد و الأحزاب القديمة عن الخرف الأيديولوجي الأصولي الديني.
ولكن من حسن حظ الواقع أن النتائح السلبية لخرف كهذا لا تتعدى الكتابة و المواقف السياسية السلمية
وآية ذلك أن الشيوعية مهما أخذ ت طابع الدين الدنيوي تظل في الوعي ابنة الأرض وخالية من المقدس , ولهذا خضعت للنقد من أصحابها أنفسهم.
أما أشكال الخرف الأيديولوجي المستترة فحدث ولا حرج , وهي مستترة لأنها لا تظهر إلا في الممارسة وليس في الخطاب.وهي لا تقل خطورةً عن أي أيديولوجيا معلنة إن لم تكن أخطر من المعلن.
فالإعتقاد بأن العالم ثابت وخارج السيرورة والتغيير وتصعير الخد للتاريخ هو خرف يصيب بعض الجماعات الحاكمة التي لا تسمع نواقيس التاريخ وفاقدة لحس الشم التاريخي , فتقودها هذه الحال إلى العماء التاريخي.
وسائل يسأل : كيف السبيل إلى التحرر من الخرف الأيديولوجي أو الشفاء منه ؟
لا سبيل إلا سبيل واحد : الإصغاء إلى نداءات الواقع والإحساس بالواقع . و رؤية حركة الواقع وهذا يحتاج إلى المعرفة و العلم والوعي التاريخي وإلى شجاعة الوجود.
والعلم دون وعي علمي بالعالم يظل ناقصا , و الوعي العلم دون وعي تاريخي لا يكون فاعلاً و الوعي التاريخي دون الإعتراف بقوة الواقع و ملامحه القانونية لا ثمرة له.