إذا نظرنا إلى الدين، أي دين، من زاوية إنسانية وبعيون بشرية غير تعصبية فإننا سنحرر الدين من كل مظهر تعصبي خلعه بعض السياسيين عليه، ومن أية وظيفة عنفية، ومن أي استغلال له في خدمة مصالح ليست هي من صلبه، إذا عرفنا الدين من منظور فلسفي بوصفه جملة من الأفكار الإنسانية التي أخذت طابع المعتقد عبر الإيمان والتصديق حول قضايا الخير والشر والخلق والبداية والنهاية والعقاب والثواب وجملة طقوس يقوم بها المؤمن للتقرب من الإله، فإن الدين هو جزء لا يتجزأ من الهويات الروحية للناس، تستوي في ذلك جميع الأديان دون استثناء، السماوية منها والأرضية، وكل ما تفرع عنها من مذاهب وطرق. لكن الدين شيء والأيديولوجيا السياسية المستندة إلى الدين شيء آخر، فما من دين إلا وقد نشأت في قلبه جماعة تستغله سياسياً، بل ونتيجة لعدد من التحولات التاريخية سنجد أنه ما من دين إلا ونشأت من ثناياه أيديولوجيا ما. فالصهيونية هي أيديولوجيا تتكئ على الترسيمات اليهودية، ولكنها ليست اليهودية، والحق الإلهي للملوك في أوروبا وسلطة الكنيسة واضطهادها للعلماء أيديولوجية استندت إلى المسيحية، وفكرة الحاكمية وما تفرع عنها من أحزاب وحركات سياسية استندت إلى تأويل للإسلام وليست هي الإسلام.
وهذا يعني أنه ما من دين قد نجا من استغلال أيديولوجي، ولا ننسى أن هناك حروباً كثيرة في كل أنحاء العالم، قديماً وحديثاً قد تمت عبر تبرير أيديولوجي ديني.
تستمد الأيديولوجيا الدينية من الدين طابعها وقوتها وتتشبه به، إذ إنها تنطوي على أشياء مطلقة كالحقيقة المطلقة، فضلاً عن الإيمان والتصديق، وهذا من شيمة أية أيديولوجيا بما فيها الأيديولوجيات الأرضية، والفرق بينهما أن الأيديولوجيا ذات الأصل الأرضي قابلة للدحض والتغيير، بينما الأيديولوجيا الدينية أكثر عناداً لأنها تدعى بالأصل الإلهي لها.
تقوم الأيديولوجيا السياسية الدينية بوظيفة سلبية في التاريخ، فهي تدعي بمصدرها المقدس، فيما الذي يفسر وجودها مصالح بشر يعيشون في الأرض التي تهب المعنى لمضمون ما يصوغون. وبالتالي يجب أن نفسر التحولات الأيديولوجية كلها، بما فيها الأيديولوجيا الدينية وأشكالها بوصفها تعبيراً عن تحولات ومشكلات الأرض وصراعاتها، ولعمري إن من أخطر ما يتعرض له الدين أنه في كثير من مراحل التاريخ يتحول إلى المبرر الأيديولوجي لصراعات الأرض فيتحول عند أصحاب المصالح إلى قوة أيديولوجية تستمد قوتها من فكرة المقدس الديني الذي يؤمن به البشر.
ولهذا فإن فصل الدين عن السياسة هو حرمان أهل المصالح من تحويل الدين إلى أيديولوجيا، وإلى أي نوع من أنواع الأصوليات القاتلة، وحمايته من النزعات التعصبية، والاحتفاظ بطابعه الإنساني الأخلاقي ووظيفته الخيرية في الحياة المجتمعية. بل إن حماية الحياة الروحية للمجتمع، والدين، كما قلنا، جزء من هذه الحياة، لا تتم إلا بحماية الدين من الأيديولوجيا الدينية السياسية، ومن الخطاب الذي يبحث عن السلطة باسم الدين. وعندي إن الأيديولوجيا الدينية السياسية لا تبحث عن سلطة الدين على الأرض والدفاع عنه، بل تبحث عن سلطتها باسم الدين وتدافع عن مصالحها الأرضية. وما استغلال الوعي الديني الشعبي لتحويله إلى وعي أيديولوجي سياسي إلا تشويه ما بعده تشويه للوظيفة الروحية - الأخلاقية للدين.
وأخطر ما في الأيديولوجيات الدينية هي تحويل الصراعات الأرضية إلى صراعات دينية كي تدرج العدد الأكبر من الناس في صراعاتها. ولهذا فالتحرر من هذا الخطر أمر استراتيجي لأي مجتمع ولأية دولة، وهذا بدوره يحتاج إلى نظر. ألا فاعلموا.