يندر أن تجد قوماً أو شعباً أو أمّة قد انشغلت نخبتها المفكرة بمسألة الهويّة كما انشغلت العرب ونخبتها، وآية ذلك أن أهداف النهضة التي طرحها مفكرو عصر النهضة العربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مازالت حاضرة بوصفها أهدافنا الراهنة ، ولم يتحقق منها أمر من الأمور. ومنذ انشغلتُ بقضايا العرب، بوصفها همّاً شخصياً منذ خمسة وثلاثين عاما وحتى الآن، جعلت من مشكلة الهوية واحدة من أهم المشكلات التي تناولتها. وما هذه التأملات إلا ثمرة هذا الانشغال.
سؤال الهوية المطروح علينا، ليس سؤالاً مجرداً عن مفهوم الهوية منطقياً، إنه سؤال ثقافي سياسي أيديولوجي بامتياز.
غير أننا لا نستطيع أن نحلل تلك العلاقات التي ينطوي عليها سؤال الهوية دون التحديد النظري لهذا المفهوم. والبحث في تعدد دلالاته، ومعانيه وتعيين وظائفه. الهوية مفهوماً: ما يتقوم به الشيء من صفة ماهوية أو صفات أساسية ثابتة لا يكون الشيء المتعين شيئاً إلا بها. إنها الصفات الجوهرية الثابتة التي تقوم بعامل التميز. الهوية ـ إذن ـ بقدر ما هي تعبير عن الثابت، هي في الوقت نفسه تعبير عن الاختلاف، لأنها حقل تمييز، والتمييز هو تحديد الاختلاف. ولسنا واجدين أيّ مشكلة ذات شأن عندما يتعلق الأمر بهوية الأشياء والحيوان، فمهما اختلف حول هوياتها يظل الاتفاق هو السائد.
فمن ذا الذي ينكر أن النهر مجرى من الماء ينبع من مكان أو أمكنة ثم يصبّ في مكان آخر، إن صفات ثانوية للنهر قد تميز نهراً عن نهر دون فقدان ماهية النهر كالطول والعرض واتجاه المصب.. الخ.
بل حتى لو حددنا الإنسان المجرد دون أصل وفصل من حيث هويته الكلية لا يكون هناك اختلاف حتى لو اغتنى بصفات متعددة. فالغنى لا ينفي الاتفاق على تحديد هوية الإنسان المجردة، كالنطق والتفكير والضحك والإبداع والشعور بالجمال.. الخ.
تتعقد ـ أمامنا ـ الهوية وتغدو مشكلة بسبب ارتباطاتها بالوعي. فتتحول الهوية الإنسانية، أقصد هوية الإنسان، إلى مشكلة بسبب وعي الإنسان لتعيّنه، ووعي تعيّنه ذاتي بامتياز.
ها هي الذات تحدد هويتها بوعيها لذاتها على نحو محدد. الذات هنا ليست مجرد فرد، إنها جماعة، جماعة تنطوي بالضرورة على أفراد يعون ذاتهم بانتمائهم للجماعة.
وهكذا تغدو أشكال الوعي الذاتي أشكالاً لوعي الهوية.
ليس مهما أن نسأل عن الأساس الموضوعي للوعي الذاتي. فقد يكون الوعي الذاتي وهماً من الأوهام. غير أن هذا الوعي الواهم قادر على أن يصنع هوية ووعياً بالهوية. المهم هو أن هناك دائما أساساً لإنتاج الوعي الذاتي بالهوية.
فإذا كانت الهوية ثمرة وعي ذاتي، فإن الوعي الذاتي وعي بذات تنطوي على جملة من الأبعاد. فحتى الوهم الذاتي لا يستطيع أن يظهر إلا بوجود ما يصدر عنه هذا الوهم.
يحوّل الوعي الذاتي بالذات الهوية إلى مشكلة حين يصل وعي جماعة من الناس إلى أشكال متعددة من الوعي بالهوية، ويكون هناك اختلاف ونفي متبادل بين الهويات الموعيّ بها، وقد تتحول إلى أساس لتناقضات عميقة تؤدي إلى صراع أيديولوجي سياسي عنفي.. الخ.
وتزداد المشكلة ـ أقصد مشكلة الهوية- تعقيداً إذا انطوت الجماعة على عدة هويات في آن، وإذا انطوت على هويات مستيقظة وهويات نائمة قابلة للتيقظ في شروط محددة كما سنرى . وإذا انطوت على هويات سالبة لبعضها البعض. وإذا كان الوعي بالهوية وعياً «جوهرياً» ثابتاً.
ولما كان الوعي بالهوية يتكون تاريخياً ثم يلبس لبوساً لا تاريخياً عند بعض الجماعات، فإن أيّ تناقض بين التاريخ والهوية، الهوية التي صارت لا تاريخية ـ هو إيذان بظهور التعصب( الهوياتي) -و الذي يجعل من كل هوية متعيّنة بجماعة عرضة لحشد ما لا حصر له من القيل الأيديولوجي، وغير الأيديولوجي والتعامل معه على أنه حقيقة مطلقة بامتياز. وهذا هو الأصل في تحول الوعي بالهوية إلى وعي مقيد . ويغدو أكثر عناداً إذا ما كان الحشد الأيديولوجي اقتطاع فترة من التاريخي واعتبارها تاريخ الجماعة الحق.
إن تاريخية الهوية البشرية، هوية الجماعة الواحدة تحدد الهوية من حيث الثابت والمتحول فيها.
فالمكان واللغة بالنسبة إلى بعض الجماعات ثابت، والمتحول قيم وعادات ونمط حياة. غير أن شروطاً تاريخية، اجتماعية وسياسية وحضارية ـ كما سأبين ـ قادرة على أن تجعل المتحول ثابتا(هوياتياً) والثابت متحولاً.
ولعبة الوعي بالهوية لا حدود لها، سواء لدى الجماعات أو لدى الأفراد، أو لدى الأجيال، بل ولدى جيل واحد. وحقل اللعبة هنا مليء بالخيارات، وبخاصة إذا كان الحقل مزروعاً بالهويات الجاهزة المتعايشة دون أن تحقق هوية واحدة ما انتصاراً ساحقاً على الهويات الأخرى دون أن تلغيها، بل تحولها إلى حالة من الضعف قابلة للنسيان.
وظاهرة النكوص) الهوياتي) لا تفهم إلا انطلاقا من فهمنا لحقل الهويات الذي تحدثت عنه، فحتى لو كانت هوية متوارية تحت التراب فإن البشر ـ لحاجات عملية ـ مصلحية قادرون على بعثها وإنمائها حتى لتغدو أحياناً وحشا (هويتيا)
وإذا ما انتقلنا من هذا التحديد النظري المجرد للهوية كما نرى إلى مشكلة الهوية في الوطن العربي لنطبق عليها ما كنا قد جردناه، فإننا لواجدون التعين الأكثر وضوحاً لما ذهبنا إليه.
وعندي أن الهوية لم تتحول إلى مشكلة في هذه المنطقة مترامية الأطراف إلا بسبب التاريخ الحديث والمعاصر الذي حال دون تكوين الدولةـالامة.
ماذا نعني بمشكلة الهوية
المشكلة بالتعريف: تعدد إجابات تنطوي على اختلاف قد يصل حد التناقض عن سؤال واحد. والهوية مشكلة في الوطن العربي تعني تعايش عدة هويات وتناقضها معاً دون أن تنتصر هوية ما انتصاراً كلياً تجعل من الهويات الأخرى منتحية، أو نائمة أو غير مشعور بها.
فمن المعلوم أن المنطقة العربية تحتوي على أقوام:عرب، وكرد، أمازيغ، أرمن، وشركس. والعرب هم الأكثرية. من المنطقي والتاريخي أن تكون العروبة بما هي هوية دالة على التميز هي الهوية المنتصرة والسائدة على ما سواها من الهويات دون إلغاء الشعور بالهوية الإثنية لدى الأقوام الأخرى.
لكن الواقع لا يدل على انتصار كهذا وفق معيار الممارسة، فإلى جانب هذه الإثنيات كمصدر أساسي من مصادر الوعي بالهوية فإن هناك الدين، فالإسلام والمسيحية منبعان للوعي بالهوية بوصفها هوية دينية.
وداخل الإسلام، فإن الطوائف الدينية الإسلامية، تعيد إنتاج الهوية الدينية بوصفها هوية طائفية. كما تعيد الطوائف الدينية المسيحية إنتاج هويات مسيحية طائفية.
إلى جانب هذين النوعين من الهوية، فإن سكان شبه الجزيرة العربية والعراق وجزء من بلاد الشام، ما زالت الهوية لهم الناتجة عن وعي الأصل القبلي حاضرة بجلاء حتى لتكاد تتحول إلى الهوية الأكثر حضوراً وبروزاً.
فضلا عن ذلك، فإن السّلط الحاكمة في المناطق العربية المتنوعة، تسعى جاهدة عبر الرموز والجنسية والحدود إلى تكوين هوية مناطقية باسم الدولة.
فالإثنية والدين والطائفة والعائلة والمنطقة والسلطة المسورة بحدود سياسية أشكال من الهويات السائدة والمتناقضة والتي تحمل خطاباً أيديولوجيا مبرراً لكل هوية. تضمن كل هوية من هذه الهويات موقعها من تشكل الوعي الأيديولوجي بها.
ونحن أمام وقائع لا مجال لنكران وجودها، ثم نحن أمام وعي هذه الوقائع وبخاصة الوعي الأيديولوجي.
العرب. البربر، الكرد، إثنيات لأقوام موجودة تاريخياً. دعك عن وعي كل إثنية عند أصحابها الذي يصل حد القول إن كل إثنية تشكل أمّة.
يتحدد الوعي بالإثنية في المنطقة العربية بوصفه وعياً بالأصل أولاً. يقود الوعي بالأصل إلى تصور عرقي للهوية لا يعني أن يتأتى عن ذلك التصور عنصرية ما، لكن وعي الهوية بوصفها أصلا إثنياً يحول الأصل إلى طريقة في الوعي الهوياتي يأتي على مفهوم الأمة بوصفها هوية تقوم على الشعور المشترك.
فضلا عن ذلك، فإن بعض الأقليات الإثنية تعوّل على فكرة الأصل التاريخي القديم لتأكيد تمايزها التام عن الأكثرية. بل ويصل بها الحد إلى تنامي الشعور الشوفيني لديها تجاه الأكثرية التي تراها طارئة على مكان سكناها.
وليس هذا فحسب، فهناك أشكال من الوعي بالهوية تأسيساً على تاريخ قديم. فنصادف مهاجراً من حوران إلى جبل لبنان ليعلن أنه ليس عربياً بل فينيقي، ومصريّ أصله من اليونان ليؤسس وعيه الهوياتي بانتمائه إلى أجداده الفراعنة ويعلن مصر فرعونية.
وهكذا، صحيح أن هذا الوعي الهوياتي يظل محصوراً في ثلة من النخب التي ينمو لديها المتخيل العرقي الزائف، لكنه قابل لأن يتحول في ظل الأزمات مسدودة الحلول إلى أيديولوجيا عنفية.
والحق أن كل هذه الهويات المتيقظة بدرجات متفاوتة هي التي تجعل من الهوية مشكلة في عالمنا العربي، . وتزاد المشكلة تعقيداً حين تتحوّل هذه الهويات إلى أيديولوجيات تعصبية أو عنفية، أو شوفينية بامتياز.
والهوية الأيديولوجية الشوفينية «المتعصبة أو العنفية» هي التي ترفع من شأنها بشكل مرضي وتستصغر شأن الهويات الأخرى وتتعالى عليها، فتتحول الهوية الشوفينية إلى هوية نافية للآخر وسالبة لحقه.
وفي هذا الأمر تستوي هوية الأكثرية مع هوية الأقلية. بل إن هوية الأقليات أكثر شوفينية لهويتها من هوية الأكثرية، ذلك أن تأكيد وجودها الصغير والضعيف يستدعي منها تعصباً مرضياً.
فدعوة بعض مثقفي الأمازيغ في المغرب إلى رحيل العرب من حيث جاؤوا شاهدا على تلك الصورة الشوفينية لهوية بعض نخبة الأقلية. وحديث بعض المنتسبين إلى أحزاب طائفية في لبنان عن القيمة الكيفية للطائفة مقابل قيمة عددية لأخرى هو الآخر تعبير عن شوفينية مرضية. وقس على ذلك شوفينية الهوية القومية العربية عند بعض القوميين من حيث الإعلاء المطلق للعرب على باقي الأمم.. والهوية الإسلامية السياسية التي تعود بنا إلى الماضي لتحقق في الحاضر.
والحق أن انتقال الهوية من حالة أنثربولوجية ـ إنسانية إلى حالة أيديولوجية معلم هام من معالم أزمة واقع وأزمة وعي بامتياز.
والعرب من الأقوام القليلة التي تشعر بأن هويتها معرضة للخطر من قبل غزو دائم للغرب، فتحوّل الغرب من دول ذات طبيعة استعمارية توسعية مسيطرة إلى دول تعادي هوية، مع غض الطرف عن السمة الأساسية للغرب. وهكذا يتحول الواقع الاستعماري الجديد إلى غزو ثقافي.
الهوية والاختلاف والثقافة العربية
ما الذي يجعل من الهوية والاختلاف في الثقافة العربية المعاصرة مشكلة للبحث والدرس؟
أطرحُ قولاً كهذا في الوقت الذي تتصف فيه كل ثقافات العالم بمثل هذه الظاهرة. ولا تبرز فيها جميعها هذه المشكلة. إني لأعتقد أنّ هذه المشكلة ما كانت لتبرز على هذا النحو الظاهر لولا الإحساس المتنامي للعرب بأن وحدتهم القومية – التي تبدو كمشروع معوَّق – لا تكتمل في صيغتها السياسية إلا بإنجاز وحدة ثقافية تأتي على تنوع هو في الظن عامل سلب لها.
فتوزع العرب إلى دول قطرية، وما ينتج عنه من اختلاف سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي، ووجود أقليات إثنية يبرز وعيها الذاتي في لحظات ترهل الكفاح السياسي العربي، وانشطار بعض المجتمعات العربية إلى ملل دينية تأخذ صيغة البنى المعادة ذات تعبيرات أيديولوجية، والعلاقة مع الغرب المتقدم التي تواجه بتحصّن بالهوية الثقافية بدواعٍ أن هناك غزواً ثقافياً ينال من الثقافة القومية. والتناقض بين ثقافة تقليدية وثقافة حديثة. كل ذلك يقف وراء تحول الثقافة إلى مشكلة أنتجت جملة من المفاهيم المتقابلة: الثقافة القطرية والثقافة القومية، الثقافة الأصلية والثقافة المعاصرة، الثقافة القديمة والثقافة الجديدة، الإسلام والغرب، التراث والتجديد، الاستشراق والاستغراب.. إلخ.
أما نحن فسندخل مدخلاً آخر في بحث هذه المشكلة.
مدخلنا يقوم على نقطة انطلاق أولى مفادها: أن وجود الثقافة سابق على هويتها – أو ماهيتها. ولما كان وجود الثقافة أمراً تاريخياً، فهوية الثقافة هي الأخرى تاريخية.
إذا الهوية سيرورة لا تكف عن التعين، والنظر إلى الهوية الثقافية باقتلاعها من تاريخيتها فعل متناقض كلية مع منطق الثقافة ذاتها.
ولا شك أن الثقافة في لحظة ما هي هوية بوصفها بنية، ولكن إن هي إلا لحظة.. حتى تلك المجتمعات الراكدة تاريخياً لا تستطيع الإفلات من عملية تفتيت بنيتها الثقافية. والأمر أكثر سطوعاً من حيث التغير في المجتمعات الحيوية، التي لا تنفك تعيش تناقضاً متعدد الأوجه يعيّن على نحو مستمر حالها الثقافي.
إن ذلك لا ينفي إطلاقاً استمرار صلاح مفهوم الثقافة القومية معرفياً، للتعبير عن خصائص ثقافة أمّة محددة في زمن محدد من تطورها.
وذلك: أن الثقافة القومية هي جملة من السمات النفسية – الروحية والقيمية واللغوية، والأدبية يحضنها شعور مشترك بالانتماء يخلق الوعي بالتمايز يتكون تاريخياً.
تعريف كهذا لا يشير إطلاقاً إلى هوية مطلقة نشأت لمرة واحدة وإلى الأبد.
ولكن الثابت في هذه السمات أمران: اللغة والشعور المشترك بالانتماء كعنصرين لا ينفصلان ويعطيان للهوية ديمومتها، على الرغم من اغتنائها الدائم. فاللغة دون شعور مشترك بالانتماء ليست عنصراً أساسياً في الهوية والشعور بالانتماء يضعف أو يزول دون اللغة مع أنه عنصر أقوى من عنصر اللغة، لأنه مرتبط بإرث طويل من الذكريات والإحساس بالأصل تعززه بعض العادات والتقاليد.
استناداً إلى ما سبق: كيف ننظر إلى وجود الثقافة العربية من حيث هويتها واختلافها.
كأي ثقافة حيوية – ذات جانبين متداخلين نسبياً: جانب موضوعي يتكون من مجموعة القيم والعادات والتقاليد والمعتقدات الدينية، تحدد على نحو عفوي أنماط السلوك، وتنتقل من جيل إلى آخر بشكل عفوي – إنها ثقافة غير موعيّ بها وتشكل طبيعة ثانية للإنسان.
وجانب ذاتي – أي صادر عن ذات واعية مبدعة يتلقاه المجتمع عبر وسائل الاتصال المتعددة كالأدب والفن والأيديولوجيا والعلم.. إلخ. ويحدث تأثيراً في الوعي – وهذا ما نطلق عليه الثقافة الموعيّ بها.
تتعرض الثقافة العربية في جانبها الموضوعي منذ عصر النهضة وحتى الآن لتغير عميق بدأ بطيئاً وصار متسارعاً وهو تغير لا علاقة للإرادة الواعية فيه مباشرة وذلك بفعل عاملين اثنين:
1- التطور الهائل في أسلوب الإنتاج وما ينشأ عنه من طبقات وفئات اجتماعية وخصوصاً بدخول التقنية الحديثة في الإنتاج، طبقات فئات تعينت مصالحها كقوى حديثة، أسهمت وتسهم في تفتيت البنى الاجتماعية التقليدية كما في تفتيت عالم القيم والنظرة إلى العالم، وعلاقات البشر ببعضهم بعضا، وهذا بدوره ألقى بظله على الثقافة الذاتية المبدعة في مجالات الأدب والفلسفة والأيديولوجيا أي عالم الفكر بشكلٍ عام.
2- الاختراق المستمر للثقافة الأوروبية التي تحولت بفعل عالمية الرأسمالية – سواء أخذت الرأسمالية صيغة الإمبريالية أو صيغة العولمة – إلى ثقافة سائدة قادرة على الانتقال العفوي إلى الأطراف.
وهذا الاختراق ما كان ليتمّ إلا لأن العلاقات الرأسمالية ذاتها قد شرعت بالانتصار في أغلب أقطار الوطن العربي.
لكن هذه العملية تمت وتتم على أنحاء مختلفة في كل قطر من أقطار الوطن العربي وفي تعين هذه العملية وفق شروط كل قطر يبرز الاختلاف بما فيه الاختلاف الثقافي.
فبلد – كتونس مثلاً – خضع بشكلٍ مبكر للاستعمار الفرنسي، ونشأت فيه علاقات رأسمالية بفضل توظيف الرأسمال الاحتكاري في مرحلة مبكرة من القرن العشرين، وهذا ما ساعد على نشوء طبقة برجوازية تونسية متجانسة مع الرأسمالية الفرنسية.
وشهدت تونس كفاحاً وطنياً قادته النخبة من الفئات الوسطى وأنجزته عام 1956م. ثم عملت هذه النخبة على تأسيس دولة حديثة ذات علاقات رأسمالية وتحديث على غرار أوروبي.
عملية كهذه شرعت في تحطيم مؤسسات المجتمع التقليدي ولا سيما الثقافية – القيمية فيها. وهذا ما ولّد أشكالاً من الوعي الأيديولوجي الجديد نمت في إطاره مؤسسات حديثة: الحزب، الثقافة، الجامعة، المدرسة. والآن يعيش 50 بالمئة من سكان تونس في المدينة ولم يتجاوز عدد البدو الرحل حتى عام 1983م الـ300 ألف شخص.
لوحة: عمار النحاس
وظلت الروابط الثقافية والاقتصادية بين تونس وفرنسا قوية، فهناك الآلاف من التونسيين الذين يعملون في فرنسا ومازالوا مرتبطين بالوطن الأم، واللغة الفرنسية لغة منتشرة تصدر بها صحف يقرؤها السكان الأصوليون. وهذا ما يعزز من اختراق الثقافة الفرنسية للثقافة العربية التونسية.
وهذا لا ينفي أن الثقافة التقليدية والثقافة الحديثة كعالمين مختلفين تجدان حضوراً لهما في علمنا الثقافي كله.
وهذا ما يدعونا إلى القول: إن عملية رأسمالية المجتمعات العربية تسمح لنا بالحديث عن ثقافة مجتمع رأسمالي لا عن ثقافة رأسمالية سائدة.
وهذا يعني أننا في ثقافة المجتمع الرأسمالي العربي نجد ثقافات ما قبل رأسمالية تفعل فعلها إلى جانب الثقافة الرأسمالية مع تفاوت في هذه الظاهرة بين هذا القطر أو ذاك.
أي لم تصل المجتمعات العربية حتى الآن إلى انتصار الثقافة الرأسمالية غير أن الميل هو نحو انتصار الثقافة الرأسمالية.
وإنّ طرح مسألة الهوية والاختلاف في الثقافة العربية المعاصرة في إطار تحليل كهذا، يجنّبنا النظرة السكونية للمسألة.
فانطلاقاً من أطروحتنا أن العلاقات الرأسمالية هي التي تحدد مصير المنطقة، فإن الاختلاف يقل وعامل الهوية يزداد، بوصفها هوية مصير.
ولكن المسألة في تحديد الهوية لا تعود إلى رأسمالية المجتمعات العربية فحسب، وإنما إلى رأسمالية بلاد تحوز على ثقافة مشتركة وشعور مشترك بالانتماء يتنامى أكثر فأكثر في الشروط الجديدة.
وإذا كان صحيحاً أن الرأسمالية في شروط العولمة الجديدة توحّد العالم على نحو أكثر، وخصوصاً في مجالات الاقتصاد على نحو كبير وفي مجال الثقافة على نحو أقل، لكنها – أي العولمة – لم تلغ التمايز بين الأمم والشعور بالانتماء. بل قل إن العرب في ظل العولمة يحصلون على شروط أفضل لوحدتهم الثقافية.
وقد يعترض البعض قائلاً إنها لمفارقة حقاً. فالعولمة تنتج الآن ثقافة ما فوق قومية. ولماذا هي في حال العرب أحد عوامل إنتاج ثقافة قومية؟
الحق أن العرب يتوافرون بالأصل على مشترك ثقافي، وعوامل نبذ عديدة لهذا المشترك، أهمها حالة التجزئة السياسية وما يترتب عليها من أشكال تجزئة اقتصادية وثقافية ومنع التواصل.
والعولمة التي وفرت شروط التواصل العالمي أسهمت بدورها بكسر حالة الانفصال السائدة وخصوصاً على مستوى الانفصال الثقافي.
فالتلفاز عربي اليوم، والكتاب عربي، والانتقال أفضل بما لا يقاس، والهاتف دخل أداة يومية للاتصال، ناهيك عن عشرات الصحف والمجلات التي يتمّ تبادلها، وعشرات المؤتمرات المشتركة، التي فضلاً عن توفير سبل الالتقاء والحوار، توفر أيضاً شعوراً مشتركاً بالمشكلات.
وكلما ازداد التواصل بأشكاله المتعددة اكتسبت الثقافة العربية شخصية وساهمت في بلورة الهوية المشتركة وخصوصاً عبر الثقافة الواعية التي لا تنفكّ الآن تجعل من مبدعيها رموزاً ما فوق قطرية.
غير أننا نواجه في علاقة الثقافة الموضوعية والثقافة كفعلٍ واعٍ ظاهرة طريفة، ألا وهي: تحول عناصر من الثقافة غير الموعيّ بها إلى ثقافة موعيّ بها وخصوصاً على صعيد القيم والدين. كيف تتم هذه العملية؟
قلنا إن الثقافة غير الموعيّ بها تتعرض لأسباب موضوعية داخلية وخارجية لعملية تغير حقيقية.
فالتقنية تخلق لا محالة ثقافة تنحو نحو تغيير العلاقة بين الإنسان والطبيعة وتتطلّب حداً أدنى من التفكير العلمي الذي يتنامى في إطار علاقة الإنسان بالآلة ودرجة تعقدها الحاصل الآن، وإنجازات العلم قد أودت بأساطير ورؤى قديمة، فإجابات العلم الاختباري على أسئلة قديمة في علم الحياة أو الفيزياء أو الفلك.. إلخ، تحرّر التفكير من الأوهام السابقة، ونكران صحتها أمر يدعو إلى السخرية. وازدهار المدينة وتوسعها، وانتصار الفردية في العمل وتغير مرجعية الولاء يأتي على قيم لم تعد صالحة كمحددة للسلوك الفردي فتشيع قيم مجتمع رأسمالي يقوم على المنفعة والفردية وتلبية الحاجات كما تشيع فيه قيم الاحتجاج الإنساني.
والتعرف على منجزات الثقافة الغربية وخصوصاً المبدعة منها، العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية، وأشكال الإبداع الفني والأدبي يغني تجربة الوعي بالعالم.
ولما كان المجتمع – أي مجتمع – ينطوي دائماً على قوى محافظة وعلى فئات ذات مصالح لا تتحقق إلا باستمرار القديم، فإن التغيّر الموضوعي يضعها وجهاً لوجه أمام مواجهة مباشرة أو غير مباشرة للجديد.
وليس أمام قوى كهذه إلا أن تنقل جزءاً من الثقافة من حقلها الموضوعي – وهي في عالمنا الثقافة الدينية – إلى حقل الثقافة الذاتية – الموعيّ بها، وتعيد صياغتها في قالب أيديولوجي خالص أساسه فكرة الحفاظ على الهوية التي تتعرض لمؤامرة الابتلاع من ثقافة وافدة – وهي في حالنا الثقافة الغربية – وممثّلوها في الثقافة العربية كما يظن. وهكذا تنتقل حركة التغير من حالة موضوعية إلى حقل الصراع الأيديولوجي. أي تنتقل آلية التناقض بين ثقافة قديمة وثقافة جديدة من حقل العفوية إلى حقل تناقض فكري – أيديولوجي – سياسي بين أصحاب الهوية المغلقة ودعاة الهوية المفتوحة.
وليست القضية هنا بثقافية بحتة، إنما الثقافة هي التعبير الظاهر واللباس المبرقع الذي تلبسه التناقضات الواقعية.
من هذه الزاوية يجب ألا ننظر إلى التناقض الثقافي الحاصل الآن بين دعاة الهوية المغلقة وأصحاب الهوية المفتوحة على أنّه مظهر سلبي، أو أنه نكوص فقط، بل هو تعبير عن حيوية المجتمع وركوده معاً وإن أخذ أشكالاً من العنف لدى بعض الجماعات المتطرفة.
الهوية والطائفة والطائفية
تشكل آسيا العربية مكاناً فريداً في التنوع الطائفي الإسلامي. ففيها يعيش السنة والشيعة والعلويون والدروز والإسماعيليون والبهائيون والإباضيون.
وبالرغم من أن السنة هم الأغلبية فإنهم تعايشوا مع الأقليات الأخرى ودون صراع طائفي.
ولم يلحظ المرء منذ عصر النهضة وحتى وقت قريب من نهاية القرن العشرين تعيّن التنوع الطائفي في حركات وأحزاب سياسية ما خلا الإخوان المسلمين وحزب التحرير الإسلامي والأحزاب الطائفية المحلية في لبنان، في بلد يقوم نظامه السياسي أصلاً على التقاسم الطائفي.
ثم نشأت بعد ذلك الأحزاب الشيعية في العراق كحزب الدعوة وما شابه ذلك.
والحق أن الطوائف الإسلامية وقائع تاريخية وواقع موضوعي والناس يتوارثون الانتماءات الطائفية دون خيار منهم.
فيما بلدان مصر وليبيا والمغرب العربي فإنها بلدان لا طوائف فيها سوى الإسلام السني، ولهذا فإن الأحزاب الإسلامية لا تواجه معارضة إلا الشعبية السنية أيضا.
أما مسيحيو سوريا والعراق ومصر فليس لهم أحزاب معلنة تمثلهم. والخطر الذي أحدق بالمنطقة العربية الآسيوية هو الانتقال من الطائفة إلى الطائفية والأكثر خطراً انتقال الطائفية إلى عصبية حاكمة.
وإذا كان أمر الطائفة معروفا من حيث أصلها وفصلها ومعتقداتها ونمط عيشها وأخلاقها وقيمها فإن أمر الطائفية هو الذي يحتاج إلى نظر.
الطائفية بالتعريف هي هوية ذات نزعة تعصبية للطائفة. وكل نزعة تعصبية هي نزعة إقصائية للآخر سراً أو علناً. بل قل الطائفية انتقال العصبية الجامعة بوصفها هوية أنثروبولوجية إلى هوية تعصبية، إلى تعصّب..
وفي حال انتقال التعصب الطائفي كهوية إقصائية إلى النظام السياسي الحاكم فإن تحطيم العقل والمجتمع يحفر مجراه ببطء داخل جسد المجتمع ليصل إلى مرحلة التدمير الشامل للحياة والهويات الوطنية.
وتشهد بلاد الشام والعراق ومصر وهي البلدان الأبكر في الحداثة – حركة نكوصية تعصبية غريبة وغير معقولة لأنها غير متوقعة في الإطار التاريخي لهذه البلدان.
فلقد انتشرت الإخوانيات على نحو واسع: الإخوان المسلمون والإخوان الشيعة وغيرها من الإخوانيات المتعددة هذه عبر العصبية الدينية التي تحولت إلى عصبية سياسية ومن ثم نقلت الطائفة إلى طائفية دمرت مجرى التاريخ الطبيعي لآسيا العربية عموماً ولأكثر بلدانها تقدماً.
فلقد بدأ التاريخ الطبيعي لبلاد الشام والعراق عصر النهضة العربية بالفكرة القومية الجامعة – أي فكرة العروبة – أو الفكرة السورية القومية.
والحق أن الجسد الثقافي الشامي والعراقي كان في الغالب جسداً قوميا وَذَا هوية قومية عربية مع وجود أيديولوجيات أخرى.
وحتى حركات الاستقلال والتحرر اتكأت على الأيديولوجية القومية. فازدهرت في الخمسينات الفكرة القومية العربية على يد حركات البعث والقومين العرب ومن ثم – فيما بعد – الناصريين. وبدا أن مجرى للتاريخ ينمو نحو هوية قومية عربية.
ولم يخطر على بال أحد أن تنهزم الحركة القومية في بلاد الشام و العراق على هذا النحو الفاجع.
بل ولم تنتصر الهوية السورية أو الهوية العراقية باستثناء الهوية الفلسطينية التي – بسبب القضية والكفاح السياسي والمسلح – برزت واقعاً واضحاً قبل أن تلوثها بالأخونة.
حين حكم البعث سوريا كان من الطبيعي أن تنتصر الفكرة القومية هوية جامعة للسكان، فمنذ 1963 عام استيلاء البعث عن طريق العسكر على السلطة ظل الخطاب الإعلامي والتربوي والتعليمي مطبوع بطابع الهوية القومية.
ولكن الخطاب سرعان ما فقد تأثيره عبر الممارسة في احتكار السلطة والقضاء على حال الدولة. ففي الوقت الذي تنتصر فيه السلطة على الدولة وتدمر الدولة تبحث السلطة عن عصبية تسمح باستمرارها. فماتت العصبية الأيديولوجية البعثية القومية وانتصرت العصبية الطائفية التي بعثت العصبيات الطائفية الأخرى. وهكذا انهزمت عصبية الدولة وعصبية الأمة.
أما في العراق التي حكمها البعث أيضاً حيث كانت عصبية السلطة منقسمة إلى عصبية حزبية وعصبية عائلية انتصرت عصبية السلطة على هوية الدولة – الهوية العراقية أولاً وعلى الهوية القومية ثانياً، ولكن لم تكن للنظام هوية طائفية، بل نشأت الهوية الطائفية الشيعية بوصفها معارضة للنظام وبدعم من الحالة الإيرانية حيث إيران الآن هي الدولة الدينية – الطائفية الوحيدة في العالم.
أما في فلسطين حيث حركة المقاومة و م.ت.ف هي حركة وطنية علمانية نشأت فيها النزعة الطائفية المتدينة بفعل هزيمة المشروع الوطني الحداثوي فكانت التي حولتها السلطة إلى حركة سلطة فقط عبر شعار مستتر “غزة تكفيني”.
وإذا كان انتصار السلطة على الدولة في كل من سوريا والعراق قد نقل الطائفة إلى طائفية وأدّى إلى وجود سلطة طائفية لأول مرة في العراق الحديث وسلطة شيعية متدينة وتعيش الهوية الآن في هذين البلدين أزمة وجودية خطيرة، فالطائفية هي نظام السلطة السياسي، وهي أساس الهويات في مناطق منعزلة وهي مناطق جرى تجميعها بشكل عشوائي من قبل الفرنسيين. فالطائفية في لبنان طائفية مقاتلة ومسلحة ولهذا لم ينتصر الاندماج الاجتماعي ليشكل هوية لبنانية.
فإذا كانت السلطتان في سوريا والعراق قد حطمتا مشروع الدولة الذي بدأ في أربعينات القرن الماضي، وتشهدان الآن تحطم التعايش والاندماج بفعل العصبية الطائفية، فإن لبنان بالأساس لم يشهد مشروع الدولة بل تأسس على مبدأ التقاسم الطائفي للسلطة فقط.
وإذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك، فإن البديل الوحيد للخروج من حال تحول الطائفة إلى طائفية هو إنجاز الدولة الوطنية – الديمقراطية العلمانية، ومنع أيّ حزب يتخذ من الطائفية مبدأ له، وإن مبدأ الديمقراطية العلمانية لا يستقيم مع وجود أحزاب ذات أيديولوحيات طائفية – دينية.
ولعمري أن وجود أحزاب شيعية متعصبة وحاقدة في العراق يعني أكبر كارثة في تاريخ العراق الحديث إذ عمل على تحطيم الهويتين العراقية والعربية معاً. كما أن وجود سلطة طائفية في سوريا قد حطم أهم مشروع قومي عربي في تاريخ العرب المعاصر، كما حطم المجتمع السوري نفسه.
ليس هناك سوى خيار واحد وحيد الدولة الوطنية – الديمقراطية العلمانية. أجل يجب لقيام الدولة فصل الدين عن الدولة، في دولة ديمقراطية لا وجود فيها للحق في قيام الأحزاب الدينية أو الأحقاد الطائفية.
الطائفية سواء كانت حزباً أو سلطة أو خطاباً جريمة تاريخية كبرى هي قتل للحياة وتدمير لإمكانية قيام الدولة، وأساس للحروب الداخلية ومدخل للولاءات الخارجية وتحطيم للسيادة الوطنية.
الهوية النائمة والهوية المتخفية
الهوية النائمة هي في الأصل هوية ضعيفة نوعاً ما، وإلا لما غفت أصلاً، وما كانت لتغفو إلا لأن هناك هوية أقوى قد احتلت المكانة الأرأس في الذات.
ففي لحظة من لحظات الوعي الأيديولوجي – السياسي بالعالم تنتصر الهوية الأيديولوجية والفكرية، فإما أن تصبح هوية دائمة قابلة للتجديد ويعبر عنها قولاً وفعلاً، فتنتصر على سواها من الهويات التي ورثتها الذات كالهوية اليسارية أو الهوية القومية العربية أو الهوية القومية السورية أو الهوية العلمانية أو الهوية الفلسفية، وإذا ما نظرنا إلى هذه الهوية عن طريق السلب فإننا نتحدث هنا عن هوية تنفي ما يتناقض معها داخل الذات نفسها.
فإذا كنت قومياً مثلاً فإنك – ولا شك – تنفي هوية طائفية وإقليمية إذ من المستحيل أن تجتمع هاتان الهويتان معاً. وإذا إجتمعت هويتان غير متناقضتين كالهوية القومية والهوية الوطنية فإن إحداهما )أحدهما (يجب أن تتفوق على أخرى سلوكاً على الأقل.
أو إن الهوية المنتصرة أيديولوجياً وفكرياً وفلسفياً هي منتصرة في حدود تراجع الهوية الأضيق إلى الخلف وعندها تغط بالنوم ولا تستيقظ إلا إذا جاءت ظروف حملتها على الاستيقاظ.
وعليه فاستيقاظها من حيث درجة نشاطها متوقف على الموقف نفسه وطبيعته، وهناك اختلاف بين استيقاظها لدى الفرد واستيقاظها لدى الجماعات.
فلقد مضى زمن طويل قبل أن تستيقظ الهوية الطائفية في المجتمعين السوري والعراقي، وقبل أن تنتقل من عفويتها الطبيعية إلى قصديّتها السياسية كما نرى الآن. فالأيديولوجيا البعثية والناصرية والسورية القومية والشيوعية تقاسمت هوية السنة والعلويين والدروز والإسماعليين والمسيحيين في سوريا كما تقاسمت الأيديولوجيات القومية والعراقية والشيوعية ولاءات العراقيين ولم تستطع حركة الإخوان المسلمين أو حزب التحرير أن تحتل المكانة التي إحتلتها الناصرية مثلاً في كلا البلدين.
وظلت الهوية السنية هوية بسيطة خارج حدود الممارسة السياسية والوعي الذاتي. وهذا حال هوية الأكثرية بعامة.
وقس على ذلك باقي الهويات باستثناء الهوية الكردية التي لم تسمح لها ممارسات الأنظمة أن تتحول إلى هوية نائمة أصلاً.
غير أن شدة وعي الأقليات بهويتها أكثر من شدة وعي الأكثرية عموماً. وهذا يعود إلى بنية الجماعة النفسية.
فالشعور برغبة الحضور لدى الأقليات يولّد لديها تضامناً قوياً من جهة ونزوعاً نحو تبني هوية جامعة والدعوة لها لتحقيق المساواة مع الأكثرية.
وفي كلا الحالين لا تحملها هويتها – من حيث المبدأ – على نزوع طائفي، ولكن هويتها متيقظة أكثر بسبب إحساسها بالاختلاف. وهذا أمر طبيعي.
ويجب الاعتراف أن الهوية السنية النائمة في سوريا والعراق لم تستيقظ إلا بعد زمن طويل من شعورها بالغبن التاريخي وعدم المساواة أمام السلطتين الحاكمتين اللتين احتكرتا بشكل شبه كامل عنصر قوة الدولة: الجيش والأمن وما جرّ ذلك من توسع سلطتي الجيش والأمن ليشمل حياة المؤسسات جميعها.
والإشارة إلى هاتين الهويتين كان يتم سراً وعلانية أحياناً غير أن استيقاظ الهوية السنية وضع النظامين في ورطة تاريخية لم يفكرا بالخروج منها أبداً على المستوى السياسي والمجتمعي.
في مقابل الهوية السنية والهويات الأخرى النائمة التي استيقظت على نحو نشط كانت تعمل على الأرض هوية متخفية لدى المثقفين بالأساس.
والفرق بين الهوية النائمة التي استيقظت والهوية المتخفية أن الأولى نامت بفعل غير إرادي واستيقظت بوصفها رد فعل، فيما الثانية حاضرة في الوعي ومتخفية بفعل إرادي عبر قول غير طائفي وهنا تكمن الخطورة.
كانت الهوية المتخفية تمارس التقية عن عمد ولكنها في الوقت نفسه كانت سعيدة بانتمائها الطائفي.
ما إن قامت الثورة وصار لزاماً على جميع المثقفين بعامة أن يتخذوا الموقف سراً أو علانية ما عادت الهوية المتخفية قادرة على التخفي فأعلنت حقيقتها بوصفها جزءا من النظام المقاتل وذلك بحجة مواجهة المد الإسلامي الأصولي.
والحق أن لعنة السلطة لم تسمح للهوية المتخفية إلا أن تعلن عن موقفها على نحو يدعو إلى القرف وبدل أن تقدم البديل السياسي العلماني – الديمقراطي – البديل الوحيد الذي ينقذ البلاد تاريخياً راحت تكيل الاتهامات للعلمانيين واليساريين والديمقراطيين الذين يدافعون عن المستقبل الديمقراطي – العلماني لسوريا بأنهم عادوا إلى سنيتهم أو مالوا إلى الحركات الإسلامية، أو عبّروا عن أحقاد خفية. وكان سلاحهم في ذلك الشتيمة.
مع أن جميع اليساريين والقوميين والعلمانيين بمن فيهم من دخل السجون بذلوا جهوداً هائلة مع النظام لإخراجه من ورطته التاريخية ومساعدته على إتخاذ مشروع جديد للإنقاذ، وما من مثقف يساري ديمقراطي إلا وكان يدرك الخطر المحدق بسوريا المستقبل. وهؤلاء لم يكن لديهم أصلاً هوية نائمة، فيما كانت الهوية المتخفية تمارس نوعاً من الإلهاء والشطارة الزائفة والغباء التاريخي.
هل هناك من خطر لاحق ليقظة الهوية النائمة وانكشاف الهوية المتخفية؟
نعم هناك خطر وخطر كبير. فالهوية المتخفية والمستيقظة بعد أن تحولتا إلى هويتين مقاتلتين فإن فكرة التسامح لديهما ستضعف لزمن ليس قصيراً، الهوية المنكشفة بعد الخفاء عزلت نفسها عن أن تكون جزءا من قوى المستقبل.
والحق أن الهوية المستيقظة – بوصفها هوية ضعيفة – ستعود إلى حالها النائمة وقد تنتصر لديها مرة أخرى الهوية الكلية وهي وحدها – أي الهوية الكلية – المواطنة – الدولة الديمقراطية العلمانية ستحرر الهوية المتخفية من إرثها السيئ وستحول دون يقظة الهوية النائمة.
إن أخطر ما يواجهه المجتمع – أي مجتمع – هو صراع الهويات ولا سيما صراع الهويات الدامي، وليس هناك إلا حلّ واحد وحيد ألا وهو قيام الدولة الديمقراطية المدنية العلمانية التي تحوّل جميع الهويات إلى هوية وطنية وتجعل من ثقافاتها ثراءً يغني الحياة كما أشرنا.
الهوية والدولة
اعتقد أن – العرب – يعيشون حالتين متناقضتين بل قل حركتين متناقضتين:
الأولى: حركة موضوعية تنحو نحو التوحيد وتحقيق الوعي الذاتي بالانتماء. وهذا شرط ضروري غير كاف لتكون الأمة – الدولة.
تتم هذه الحركة في جميع المجتمعات العربية تقريباً دون قصد. تتجلى أكثر ما تتجلى هذه الحركة في الثقافة، كما أشرنا، على نحو واضح وجليّ وقويّ سواء نظرنا إلى الثقافة بالمعنى الأنثروبولوجي أو بالمعنى الإبداعي للكلمة. بل إن الثقافة بالمعنى الإبداعي تقوم بتعويض شديد لما تخرجه سياسات الدويلات. وعندي أن النخبة العربية المبدعة في مجالات الفكر والأدب والصحافة المكتوبة والإعلام التلفزيوني والسينمائي قامت وتقوم بدور لم يحصل لنخبة في العالم أن قامت به على مستوى خلق الوعي بالهوية في شروطنا. ولا شك أن هذه النخبة قد استفادت كثيراً من واقع موضوعي – هو واقع الاتصال اليوم، حيث زالت حدود المنع التي مارستها الدويلات سابقاً وآنفاً من هذه الدويلات. وإن كان الكتاب ما زال عرضة للاعتقال فإن وسائل انتشاره الشعبية عن الطرق الحديثة جعلت من الكتاب الممنوع أكثر انتشاراً من الكتاب المسموح. وكل ذلك يتم بانهيار شبه مطلق للجهاز الإعلامي – الأيديولوجي للدويلة العربية، وعزوف البشر عن تصديق الأكاذيب غير المعقولة التي يبثها هذا الجهاز الأيديولوجي.. وهناك مظهر آخر من مظاهر هذه الحركة الموضوعية ألا وهو الموقف من الصهيونية وإسرائيل.
ففي الوقت الذي نشهد فيه ميلاً نحو ثبات الدول التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية، وتأكيد الهوية كجنسية للدولة تشهد المنطقة وعياً شعبياً يميل إلى هويته العربية. فضلاً عن الميل المتعاظم لوعي الهوية الدينية.
إن المجتمعات العربية التي كانت مستعمرة والتي سارت شوطاً في طريق التقدم الموضوعي – وأهمه تفكك البنى القديمة – أصبحت تقع في تناقضات من حيث نظامها السياسي وصورتها وجوهرها. وبالتالي تقع في تناقض مزدوج: تناقض مع حركة العرب الموضوعية نحو الوعي بالهوية القومية، وتناقض مع المجتمعات التي تحكمها والتي أصبحت أكثر تقدماً من بنية هذه السلطة، ولم تستطع الدولة أن تتحول إلى كابح للحركة إلا بفضل أقصى درجات القمع والتخريب ولهذا تراها: تقدم خطاباً زائفاً حول السيادة، وخطاباً زائفاً حول تاريخها. فالسيادة بالمعنى الذي تقدمه الدويلة العربية لا تعني سوى البقاء كما هي دون أيّ ارتباط بالكل العربي، وظاهر الخطاب هو عدم التدخل في شؤون الدويلات الأخرى. وكلما أحسّت هذه الدويلات بمأزقها التاريخي زادت من آلية الانكفاء على ذاتها اقتصادياً وسياسياً وبالغت من إجراءات السيادة الشكلية.
والسبب الأقوى لتقوقعها يكمن في أن كل تكامل على مستوى الدويلات يؤدي بالضرورة إلى إضعاف سيادتها. هنا بالذات يكتمل مأزق الدويلة القطرية من حيث لا شرعيتها كدويلة ولا شرعية سلطتها بالذات. من هنا يكون الجواب على السؤال التالي هو من قبيل تحصيل الحاصل: لماذا يصبح 300 مليون عربي يسكنون بقعة تمتد من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي تجمعاً هامشياً على مستوى العالم، وغير قادر على حل مشكلته الأساسية إزالة إسرائيل من الوجود.
هل هناك حل ومخرج من هذا المأزق؟
في اعتقادي أننا نعيش حالة الأجوبة الجاهزة غير المقنعة والتي لا تمتلك آلية تحققها.
كأن نقول مثلاً: إن مواجهة النذر السياسي تكمن في تحقيق الوحدة القومية، أو مواجهة الوضع الاقتصادي للدويلات غير ممكن إلا في إطار الوحدة الاقتصادية، أو أن تحرير فلسطين لن يكون إلا ثمرة اشتراك العرب جميعاً في الصراع.
إن أجوبة كهذه هي بحث من النقيض البديل الذي أثبتت الأيام أنه لا يمتلك شروط تحققه.
وعندي أنه من المستحيل تحقيق أي هدف من أهداف العرب دون المدخل السياسي لفهم الدول وسلطتها.
أشرت فيما سبق إلى تناقض حركتين: حركة موضوعية جاذبة وحركة ذاتية نابذة.. أعتقد أن التناقض الأولي هو بين مجتمع الدولة وسلطتها، وهو الذي أنتج الربيع العربي، ولا شك أنها مسألة في غاية التعقيد كما تبدو الآن في إطار النزعات المنتشرة للتغيير دون أن نلمس أثرا يذكر اللهم سوى بعض التكيف هنا وهناك، أقصد تكيف السلطة وهو تكيف لم يصل إلى تغيير ماهيتها.
ما يجب أن يكون نظرياً هو إنتاج سلطة مطابقة في العموم مع خيارات المجتمع أي مع الحرية في التعاقد السياسي والتعاقد الوطني والتعاقد الاجتماعي.
«هذا الذي يجب أن يكون» أمامه عوائق تراكمت في أغلب المجتمعات العربية، أهمها عائق إفراغ المجتمعات العربية من حياتها السياسية أو الحيلولة دون قيام شخصية سياسية في مجتمعات لم تعرف بالأصل الحياة السياسية. فاستمرار القمع مدة طويلة أنتج ضعفاً شديداً في فاعلية المجتمع بكل طبقاته وفئاته، وبخاصة الفئات الوسطى التي هي قلب المجتمع الحي.
الهوية والخصوصية
ينتمي مفهوم الخصوصية إلى حقل الثقافة والاجتماع والسياسية والقيم، إنه مفهوم يشير إلى الاختلاف الواقعي لتعيّنات كل ما سبق، يشير إلى اختلاف التطور التاريخي للتجمعات البشرية. وليس لأحد أن ينكر خصوصية الإقطاع الشرقي العثماني عن خصوصية الإقطاع الأوروبي في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، كما لا أحد بقادرٍ على نفي اختلاف تطور المجتمع الروسي في القرن التاسع عشر عن المجتمع الإنكليزي.. وقس على ذلك اختلاف قيم أوروبا عن قيم جنوب شرق آسيا.. إلخ.
عند هذا الحد يظل مفهوم الخصوصية أداة معرفية لفهم المجتمعات واختلافها.
غير أن هذا المفهوم، ما إن ينتقل إلى حقل الأيديولوجيا للتعبير عن الهوية حتى يفقد هذه الوظيفة، أي المعرفية، ويتحول إلى أداة تزييف للواقع، ومبررٍ لأهداف ومصالح متعددة. وأسطع حالة من حالات تحول مفهوم الخصوصية من مفهوم علمي ـ اجتماعي، إلى مبرر أيديولوجي، هو تحوله عندنا في بلاد العرب. وباستطاعتنا أن نرصد الحالات الآنية لمثل هذا التحول الذي أطلقنا عليه: أيديولوجياً الخصوصية.
أولاً: الخصوصية في أيديولوجيا السلطة: فلقد بات من المتفق عليه أن السلطة في الوطن تسعى عبر الخصوصيات إلى التحلل من الأهداف المشتركة للعرب. غير أن السلطة في بلدان العرب تحتج دائماً بمفهوم الخصوصية لتأكيد هوية أبدية غير قابلة للتغير، فتتحدث عن اختلاف التطور بيننا وبين أوروبا، واختلاف القيم والعادات.. إلخ. إذ ذاك يصبح التخلف حالة طبيعية ناتجة بالضرورة عن هذه الخصوصية.
يضاف إلى هذا القيل الأيديولوجي، قيل آخر، يسوقه مثقفو التجزئة وحراس الطائفية، مفاده أن هناك خصوصيات لكل قطر عربي تمنع قيام الوحدة، أو أيّ شكل من أشكال الدولة الأمة.
ولو تأمل أيديولوجيو الخصوصية هؤلاء للخصوصية داخل أوطانهم بالذات، لكفوا عن هذا المقيل، لأنهم سيتوصلون حتماً إلى استحالة وجود القطر الواحد نفسه.
فالمتأمل لخصوصية طرابلس الشام واختلافها عن خصوصية بيروت الشرقية لدعا إلى الانفصال، وإقامة اتحاد بين حمص وطرابلس الشام وإلى الوحدة بين جبل لبنان ووادي النصارى في سوريا. وقس على ذلك خصوصيات شرق الأردن المتماثل مع حوران وجبل العرب.. وتشابه شمال شرق سوريا مع شمال غرب العراق..
ولمن لا يعلم فإن شمال روسيا يمتلك من الخصوصية المميزة عن جنوبها أكثر بكثير مما يمتلك المغرب من خصوصية تميزه عن فلسطين، بل إن لهجة القلمون صعب فهمها على الحوراني من لهجة أهل تونس..
ثانياً : الخصوصية في الأيديولوجيا الإسلامية، ما إن يطرح مثقف عربي ضرورة التنوير والحداثة والديمقراطية والعلمانية وتحرر المرأة والتجديد والدخول في روح العصر حتى ينبري الأيديولوجي الإسلامي إلى القول: وماذا نفعل بخصوصيتنا وقيمنا وديننا وهويتنا، ثم يروح متهماً خصمه بالتغريب والعدمية وما شابه ذلك من أوصاف، وكأن الهوية قد قُدّت مرة واحدة وإلى الأبد.
أبو الخصوصية الدينية هذا إذا ما غربلته فلن تجد في نمط حياته ما ينتمي إلى الهوية التي يدافع عنها، وإلى الخصوصية التي يتوهمها، كل ما هناك نوع من التفكير المنبت.
وهكذا يتحول الاختلاف والتنوع من ثراء واقعي للحياة وللفكر إلى أيديولوجيا ضد الحياة والفكر ومصالح الأكثرية.
ولعمري: إن الخصوصية هي أكثر المفاهيم التي تحولت إلى مفهوم تآمري سالب للحرية والتقدم.
الهوية والتاريخ: الهوية والوعي التاريخي
لماذا نحن مثقلون بالتاريخ إلى الحد الذي لشدة ثقله على ظهورنا نعجز عن السير بل ولا نستطيع أن نحبو؟!
دعوني بداية أتوقف عند نحن وعند التاريخ، فمن نحن؟ وما التاريخ؟ يشير ضمير الرفع المنفصل هذا إلى قوم من الناس هم العرب، والذين يعيشون في عصر الثورة التقنية والإلكترونية والمعرفية عموماً، ثورة غيرت من علاقة الإنسان بالحياة والطبيعة عبر تقدم عاصف جداً.
ولكنهم في العموم مازال وعيهم بالحياة ينتمي إلى عالم ما قبل هذه الثورة العاصفة. أما التاريخ فيفهم منه الأحداث والوقائع التي تمت في الماضي بكل ما تنطوي عليه من صراعات وإيجابيات وسلبيات وشخوص أساسية أو ثانوية، ولا تخلو أمة من الأمم ولا شعب من الشعوب ولا جماعة من الجماعات من تاريخ خاص. لكن التاريخ من جهة ثانية سيرورة وتغير وتجديد.
عندي أن علاقتنا نحن بتاريخنا علاقة تنسينا الجانب الآخر من التاريخ ألا وهو السيرورة والتغير. ويبدو لي أن هناك أسباباً أساسية حالت دون تحررنا من أسر التاريخ واستمراره، عامل صراع وعامل تأخر.
أولاً إن الحنين للماضي الذي لم نعيشه حالة غريبة، لكنه نوع من النكوص المرضي بسبب وجود عوائق بنيوية موضوعية وذاتية تحول دون تحقيق الحد الأدنى، في كثير من الدول العربية، من الرضا بالحياة المعيشية، ولا يجدون في عالمهم ما يغريهم بالفرح به. فيولون وجوههم شطر ماض تلقنوه عبر عملية انتقائية ولم يشهدوه.
إذ تختزن ذاكرتهم عالماً جميلاً قد تحقق بفضل رسالة سماوية صالحة لكل زمان ومكان. وبالتالي فإن الأمل معقود لديهم في إعادة استعادة التاريخ واقعياً، أي جعله هدفاً مستقبلياً، وهنا تكمن المفارقة العجيبة، مفارقة أن المستقبل موجود في الماضي وليس في عالم اليوم، في التاريخ الذي كان وليس في الآتي.
يحيلنا الركود التاريخي إلى الاحتفاظ بصراعات الأمس السحيق وجعلها حاضرة كصراعات حدثت للتو. فيصبح ابن الحاضر مسؤولاً عن تاريخ جرى.
عودة إلى السؤال: لقد طرحت على صفحات جريدة “العرب” يوماً السؤال الآتي: من هم العرب، العرب بوصفهم يتوافرون على هوية؟
وفي العودة إلى الإجابة التي كانت قبل عامين تقريباً أجدني الآن أكثر اعتقاداً بوجود العرب بوصفهم هوية.
وكما أشرنا فإنه من الوعي الزائف والخاطئ أن نساوي بين العرب والأيديولوجيا القومية. لأن مساواة كهذه توحد بين ظاهرة موضوعية هي العرب، وبين ظاهرة أيديولوجية هي الأيديولوجيا القومية. وهذا التوحيد الزائف يخلق لدى بعض الأقوام غير العربية نزعة تعصبية ضد العرب، بل ويبرر ظهور الهويات الطائفية المتعصبة والتأخرية، ويساعد الوعي الديني المتطرف على التوسع. العرب هم واقعة بشرية إثنية- ثقافية. هناك قوم على هذه الأرض يسمون بالعرب. تماما كما هناك أقوام تسمى: الكرد والأرمن والألمان.. الخ. فضلاً عن ذلك هناك وعي ذاتي بالانتماء إلى هذه الإثنية- العرب.
العرب- إثنية ووعياً- واقعة موضوعية وليسوا واقعة أيديولوجية. بل ما كان يمكن للأيديولوجيا القومية أن تظهر إلى الوجود لولا وجود العرب بوصفهم واقعة موضوعية. والأيديولوجيا القومية ثمرة رغبة في شكل وجود العرب المأمول وليس في خلق هذا الوجود.
العرب والحال هذه هوية دون النظر إلى درجة فاعليتها في الحياة، هوية موضوعية لا هوية “رغبوية” أو فكرية أو أيديولوجية، ولهذا فهي من نمط الهوية الثابتة. بل إن الاحتجاج على هذه الهوية ينبع من قبل المنتمين إليها.. الخ.
تكمن مشكلة العرب في أنهم قوم متعددو الدول، كما أشرنا. وهذا يخلق وعياً ذاتياً ملتبساً، ولكن لا ينفي الوعي الذاتي الأقوامي.
ولهذا فإن غياب الدولة الأمة، الهدف المؤسس للأيديولوجيا القومية لا يعني غياب العرب. بل يعني غياب العرب الدولة- الأمة ويبقي على الوعي بهذا الغياب بوصفه سلباً للإرادة.
وبالتالي يجب أن نميز بين الأيديولوجيا القومية ومنطلقاتها النظرية، والتي بدأت من النصف الثاني من القرن التاسع عشر في بلاد الشام والعراق من جهة، والحس القومي العفوي الذي راح ينمو بوصفه نمطاً من الثقافة المستندة إلى الشعور بالانتماء إلى العرب.
بل وقد دلل الربيع العربي على أمر في غاية الوضوح ألا وهو أن العوامل النابذة -الدولة القطرية- لم تستطع أن تلغي العوامل الجاذبة بين العرب.
غير أن العامل الأساسي، وإن كان قادراً على خلق الاصطفافات العربية- العربية المعبرة عن الهموم المشتركة حتى لدى الأنظمة ليس هو العامل الرئيس في عملية الجذب هذه. بل العامل الرئيسي هو العامل الثقافي بمعنييه: الأنثروبولوجي والإبداعي.
وإذا كان صحيحاً أن التحديث والحداثة قد زعزعا من وحدة المشترك الثقافي الأنثروبولوجي فإنه لم يلغ السمات المشتركة لهذه الثقافة، بل وأفضى إلى تشابه في عملية التحديث والحداثة والتغريب، فالحدود السياسية لم تستطع أن تلغي المتحد الثقافي لفلسطين والأردن وسوريا ولبنان. ولا المتحد الثقافي بين بلاد الشام والعراق فالثقافة الموضوعية في هذه البلدان: عادات الأفراح والأتراح وطقوس الولائم والتحية والزواج والقرابة والقيم المعشرية رغم ما أصابها من تزعزع مازالت مشتركة.
أما إذا ما تحدثنا عن الثقافة المبدعة فإننا نحصل على أقوى برهان على العامل الجاذب للهوية العربية والتعبير الأصدق على المتحد الثقافي.
فالشعر والرواية والقصة والمسرح والفكر والفلسفة والفن التشكيلي والسينما والدراما، وهذا المكتوب كله باللغة العربية والمسموع بها جعل من النخبة العربية مصدر وعي بالانتماء العربي. اللغة هنا ليست مجرد أداة استعمال كما الإنكليزية بالنسبة للأفريقي أو الهندي، بل هي هوية تفكير وإبداع لأنها لغة إثنية وثقافة أمة تبحث عن معادل لهويتها الإثنية والثقافية.
وكل الثقافات المبدعة مهمومة أصلاً بما يماثل الهم العربي وتعبر عن حياة الناس بمعزل عن مستويات التعبير وموضوعاته. ولا يقلل أحد من دور النخبة ووظيفتها في وعي الهوية المتجددة عبر الثقافة المبدعة.
إن غياب الجوهر الحقيقي للدولة المعاصرة والتي تقوم على أساس المواطنة والمساواة، والاكتفاء بسلطة تؤكد التمايزالهوياتي وتحول الهوية إلى عصبيات متعصبة هو الذي يفسر لنا عدم انتصار الهوية الجامعة )هوية الدولة(.
إن فكرة الدولة ـ الأمة على ما فيها الآن من طوباوية، هي الحل الأمثل لمشكلة الهوية في الوطن العربي.
فكما أن فكرة الدولة تخلق فكرة المواطنة والمساواة، فإن مفهوم الأمة يحقق حال الانتساب إلى الأمة، لكل المتعدد الهوياتي. إذ أن الأمة لا تنفي تعدد الإثنيات داخلها والهويات المستندة إلى الإثنية، بل إن الأمة الدولة) ـ أو (الدولة الأمة تغتني أكثر بحضور الهويات بالمعنى الأنثروبولوجي ـ الإنساني للكلمة وتقضي على شروط تحول الهوية إلى أيديولوجيا.
وقائل يقول: إن الأمة – الدولة حالة قديمة تعود إلى ما قبل العولمة، ثم إنها عودة إلى خطاب قومي عفا عليه الزمن.
أن تكون العولمة قد تجاوزت فكرة الأمة – الدولة فهذا قيل أيديولوجي بامتياز، فالعالم كل العالم مازال في حالة الأمة الدولة من أميركا إلى الصين.
ويجب أن لا ننظر إلى الأمة – الدولة عربياً من زاوية الدولة المركزية الواحدة ، بل من زاوية اتحاد دول لا تلغي الدولة القطرية، من جهة، ومن زاوية النظر إليها على أنها سيرورة تنتج ذاتها على نحو دائم، فليس من المعقول التاريخي أن يكون العرب واقعة موضوعية جداً دون أن يكون لهذه الواقعة الموضوعية معادل سياسي، أجل فالهوية تحتاج إلى صورة، والماهية تحتاج إلى وجود.