القول بأن الفكر هو أرستقراطي لا يعني سوى أن الفكر يصدر عن نخبة دون ارتباط مباشر بالنخبة الحاكمة وهو معنى الأرستقراطية.
نبع الفكر، في الأصل، من منبت أرستقراطي، إنه ثمرة الأحرار الذين يفكرون متحررين من الحاجة، كل فكر إنما يصدر عن عملية التفكير، وليس كل تفكير يخلق فكرا. الفكر هو الأثر الباقي عن عملية تفكير مقصود منها الوصول إلى أحكام كلية حول المجتمع والتاريخ والمعرفة والوجود.
والقول بأن الفكر هو أرستقراطي لا يعني سوى أن الفكر يصدر عن نخبة دون ارتباط مباشر بالنخبة الحاكمة وهو معنى الأرستقراطية.
وأرستقراطية الفكر تتعلق بموضوع التفكير وأسلوب اللغة؛ أن تفكر يعني أن تتحرر من العقل العام وأسلوبه، لا رغبة في التميّز، بل لأن مهمة التفكير هي هذا.
فالعقل العام يضيق ذرعا بالدكتاتورية والطاغية وبالدولة الأمنية التي تراقب حركات الناس وسكناتهم، لكنه غير قادر على الكشف عن الشروط التي تنتج هذا كله، والكشف عن إمكانية تجاوزه. فالعقل العامي نزق وسريع الغضب، فيما العقل الأرستقراطي هو العقل المتأمل الذي يكشف عن الحركة العميقة للتاريخ.
فالتأمل لا يكون إلا عن عارف، عارف جمع في عقله أدوات التفكير من مفاهيم ومناهج معرفية، وأضاف إليها الوقائع القابلة للتأمل، فيصدر عنه الفكر، أو الفكرة في وضوحها المأمول.
غير أن شرط المعرفة المتراكمة وشرط امتلاك المفاهيم والمناهج، بوصفهما شرطين ضروريين، ليسا كافيين، بل لا بدّ من شرط حرية التفكير المتأمل، أو المفكر المتأمل، لا تفكير في الأصل دون الحرية، فالعقل الحرّ وحده قادر على التجوال في دروب المعرفة من جهة وعلى الكتابة ذات المعنى من جهة ثانية، إذ يجب أن يعتقد الكاتب المتأمل اعتقادا مطلقا بأنه حرّ.
والحق، إن المعجزة اليونانية لم تكن معجزة لو لم تكن ثمرة طبقة الأحرار التي كانت تتأمل بشعور عالٍ من الحرية.
و لهذا فإن الكاتب المتأمّل وهو يعيش الشعور بفقدان حريته يتوسل اللغة والأسلوب للتحرر من هذا الشعور. فتجيء لغته في حال من الغموض أحيانا والرمزية اتقاء شرّ القوة السالبة للحرية.
ويحدّد الموضوع أرستقراطية الفكر، فالموضوع الذي يفتح أمام المتأمل آفاق الحصول على مفهوم جديد هو الموضوع الذي يرتقي بصاحبه إلى الأرستقراطية الفكرية، كما يرتقي بالفكر كذلك، من خلال موضوعات الوجود والمعرفة والإنسان والحريّة والثورة وما شابه ذلك من موضـوعات تجعل مـن التأمل طريقا للوصول إلى المعنى، عبر اجتراح المفاهيم التي تتحوّل بدورها إلى أدوات معرفية، ولهذا فإن الفلسفة، والتي هي بتعريف جيتاري ودولوز إنتاج المفاهيم، هي أعلى درجات التأمّل، وأعلى درجات أرستقراطية الفكر.
ففي هذه المرحلة من تاريخ العرب الذي يشهد تحولات ثورية عاصفة فإن التأمّل في هذه الحركة الثورية مسألة على غاية كبيرة من الأهمية العملية، ولا سيما إذا تحوّل هذا التأمّل إلى معرفة لدى الفاعلين العمليين النخبويين.
أما إذا تركت هذه العملية التاريخية إلى اللغو الذي لا طائل منه فإن اللغو في حدّ ذاته سيتحول إلى عامل سلبي في مسار حركة التاريخ.
وإذا كان صحيحا أن الانفجار العربي قد تمّ دون وعي نظري ودون قيادة واعية فإن تركها دون ذلك في ذروة كفاحها أمر ذو نتائج غير محمودة.
وامتلاك الثورة نظريا غير ممكن دون وعي فلسفي بها، دون تأمّل عميق بحركتها منذ ولادتها مرورا بمسارها وانتهاء بمصيرها. صحيح أن الثورات الكبرى قد جرى تناولها بعد زمن طويل من حدوثها، كما فعل ذلك مثلا هارولد لاسكي في كتابه تأملات في ثورات العصر لكن تناولها هذا يسمح لنا بأن نصل إلى المعنى الكلي.
وفي كل الأحوال فإن الكلام الصادر عن التأمل بوصفه أرستقراطية الفكر هو المؤثر الأبقى وعيا.