‘’لا تستطيع أن تفعل شيئاً أمام ذهنية خالية من قيمة الوفاء للحقيقة ‘’
ذهب تزفيتان تودوروف إلى باريس متمردا مبعوثا من دولته الشمولية لمدة عام، فاختار باريس مكانا دائما، فيها كتب ما كتب ومنها رحل.
كل مفكر هو مغترب عن معطيات ولادته، كما كتب يقول. ولعمري بأن تودوروف الذي وجد في عالم الغرب الديمقراطي حقل حريته في الكتابة والتفكير، ظل بوصفه مثقفا لا يعجبه العالم المعيش مغتربا ككل الكتاب المتأففين من العالم.
من هو تودوروف؟ سؤال ينطوي على اعتداء من جهة وعلى رغبة في التحديد الضروري لمثقف كتب في صنوف معرفة متعددة. وكل تحديد لمثقف بعينه اعتداء من نمط ما؟
“حاولت أن أكتب… نظمت قصائد رديئة ومسرحية من ثلاثة فصول موضوعها حياة الأقزام والعمالقة، بل وشرعت في كتابة رواية، لكني لم أتخط الصفحة الأولى. أحسست سريعا بأن تلك ليست سبيلي، ودائما غير متيقن من الآتي، اخترت مع ذلك دون تردد في نهاية الثانوية مسلكي الجامعي، سأدرس الأدب”. هذا ما كتبه تودوروف في “الأدب في خطر”.
يحيل هذا النص المعبر عن التجربة الذاتية إلى معنى عميق، الكاتب ذو روح تمت إلى الأدب إلى الشعر والرواية. لكنه وجد نفسه ليس أهلا للإبداع في هذين الصعيدين. ومع ذلك اختار طريق دراسة الأدب، وهكذا فعل.
لكن دارس الأدب هذا، وقد عاش تجربة تداخل النقد الأدبي وعلم اللغة والفلسفة والأنثروبولوجيا في مرحلة شهدت ثراء بهذا كله في فرنسا، راح يكتب فيها كلها، فمثل حالة من حالات المثقف المزدهر، ولم يكن الوحيد في ذلك عالميا، حسبنا أن نذكر في هذا الشأن إدوارد سعيد.
والحق إن نموذج المثقف المزدهر نموذج يعود إلى وحدة العلوم الإنسانية والأدبية والفلسفية وتداخلها. من ذا الذي باستطاعته تجاوز الفرويدية والبنيوية والفنيومينولوجيا في دراسة النص الأدبي مثلا.
بل إن وحدة هذه المباحث هي التي حملت تودوروف وسواه على أن يكتبوا في مواضيع متنوعة ومختلفة.
كان هذا العقل النقدي المغترب ذا نزعة إنسانية قوية، مناهضا للمركزية الأوروبية وللصلف الغربي-الأميركي تجاه العالم الآخر، ورافضا لتبرير الجرائم “بدواعي حماية ذواتنا” كما يقول، جاعلا من الاعتراف شرطا ضروريا للحياة المشتركة.
نعود لنؤكد القول إن تودوروف أنموذج ساطع للمثقف المزدهر. صحيح أنه لم يكن له معجمه الخاص المبدع، ولم يقدم جديدا في حقل المناهج في أي من الأصعدة المعرفية التي كتب فيها، لكنه قدم مثالاً للمثقف الثري والمجتهد فيما يكتب.