يبدو أنّه كلّما غُصنا أكثر في مسألة "الإسلام السياسي" في تونس تراكمت الأسئلة من حيث اعتقدنا أننا نجيب على بعضها. فتشكّلُ هذه الظاهرة في الفضاء العربي الإسلامي وتحديدا في منتصف القرن الماضي ما يعتبره البعض حركة مضادّة للتاريخ وانتكاسا عن التقدّم الإنساني ذي الأفق الحداثي وما بعد الحداثي، ولكنّ سريانها في المجتمعات الحديثة وانتشارها والتفاف النّاس حولها كان تأكيدًا أنّ حركة التقدّم ـ بعد فشل مشاريع الاستقلال الوطني بعناوينها القطرية والأممية ـ لا يمكن أن تتحقق بالقطيعة أو بالتغريب أو بإسقاط النماذج. لهذا لا يمكن فهم تلك الظاهرة في تونس بالقول إنّها "صنيعة" أو موجة مضادّة لتصاعد اليسار وتراجعه أو حتى بأزمة مجتمعية خانقة مما خلّفه قانون 72 والانفتاح الاقتصادي، كلّ هذا محض تأويل لا يكاد يثبت سنده.
نعتقد في غير جزم أو إطلاق أو تعميم، أنّ مدخل الفهم قد ضبطه الباحث عبد الباقي الهرماسي في مقاربته للحركة الإسلامية في تونس بقوله إنّها: "تستمدّ منطقها وأسبابها من ثقافة المجتمع التونسي، أكثر مما تملكه من نقاط الاستقطاب من التوجّهات الشبيهة بها في جميع أنحاء العالم" .
وهذا بدوره يقودنا إلى مصطلحه "الإسلام الاحتجاجي" الذي قيّد به الظاهرة معتبرا أنّ صيغة الحضور الاجتماعي للظاهرة إنّما هي في تحويل الإسلام ـ أو بالأحرى فهم هؤلاء للإسلام ـ من طقس تقليدي طُرقي إلى أداة تغيير اجتماعي من خلال شحن الأنصار واثارتهم بالشعار الديني و"الأسطوري" . وككل حركة احتجاجية ستسعى الجماعة الإسلامية في تونس بظهور رمزها التاريخي أو " سلطان القدوة" راشد الغنوشي إلى التمكين السياسي، تتجاوز به عفويّة ما اجتمعت عليه في 1972 إلى مؤتمر تأسيسي يلمّ الشتات ويضبط الانزلاقات الفردية في مؤسسة لها هياكلها وقوانينها ومهامّها المنوطة بها. سيتمّ ذلك في صائفة 1979 بجهة منّوبة.
لكن قبل هذا، هناك أسئلة ضروريّة هي بمثابة مفاتيح للفهم والتفكيك أهمّها: هل اختارت هذه الجماعة الوقت المناسب لعقد مؤتمرها في ظرف تعيش فيه البلاد ارتدادات المواجهة العنيفة بين اتحاد الشغل والزعيم الذي بدأت تظهر عليه علامات الترهّل؟ هل هناك خطوط فكرية ومرجعية متخالفة بين أعضاء التأسيس مما قد يثير خلافات بعدية؟ إذا كان هذا واردا فما هي؟ وأين مؤسسة الزيتونة من كلّ هذا؟ بل أين السلطة من هذا الحراك "السرّي"؟
من المؤتمر التأسيسي إلى المؤتمر الاستثنائي: إعادة ترتيب للأولويات
سبق القول إنّ تصعيد المؤتمرين كان قد تمّ على امتداد ثلاث سنوات خلت وكان مقياس الجدارة في ذلك الانضباط القيمي والنشاط المسجدي في حلقات التحفيظ أو الدروس الدينيّة. وعَطَفنا على ذلك، بذكر خروج مجموعة "الإسلاميون التقدميون" والحاجة الملحّة ساعتها لملء الفراغ التنظيمي وتجديد البيعة للتنظيم ولأمير الجماعة. غير أنّ الحدث الفارق الذي سبق عقد المؤتمر التأسيسي، وقد يكون عجّل به، هو نجاح الثورة الإسلامية في ايران وعودة آية الله الخميني مظفّرا من منفاه في 1 فبراير سنة 1979 وهو ما بثّ في الجماعة حماسة نجاح النموذج. وسيكون لهذا الثورة تأثير معنوي كبير قد يفسّر قولنا الآتي.
نزعم من خلال قراءة "خلفيات" رموز تلك المرحلة أنّها لم تكن كما يعتقد البعض على قلب فكر واحد. فقد نميّز بشكل ما ثلاثة أمزجة بعد استبعاد "الفكر التقدمي" وهي: مزاج زيتوني صميم تقليدي الفكرة والمرجع، وإخوانيّ مشرقي الهوى، وعروبي إسلامي ونعتقد أنّ مبارك بكداش وراشد الغنوشي كانا الأقرب لهذا التوجّه. والحقيقة أنّ قضية العروبة والإسلام لم تكن مثار منافرة بين القوم في تونس كما هو الأمر في المشرق لهذا كان من السّهل القبول بفكرة "الأمّة العربية الإسلامية" منذ بواكير نشأة الجماعة الإسلاميّة. قلنا إنّ لنجاح الثورة الإيرانيّة تأثيرا مباشرا على الجماعة، فقد زوّدها بالثقة في طرحها ومدّ في طموحاتها ولكن أهمّ من هذا هو أنّ "الخمينيّة" قد أذابت تلك الأمزجة في مزاج واحد.
وأمام ارتخاء قبضة الزّعيم على البلد بعد نزول الجيش إلى الشارع لقمع انتفاضة النقابيين وما خلّفه ذلك من استياء شعبي وإزاء تمدّد الظاهرة المسجديّة التي بدأت تسترعي الانتباه، حزمت الجماعة أمرها واختارت جهة منّوبة في ضيعة خاصّة صائفةَ 1979 لتعقد مؤتمرها التأسيسي برموزها السابقة إضافة إلى بعض العناصر الطلابية، وتعلن عن نفسها تحت مسمى "الجماعة الإسلاميّة بتونس" وأقرّت قانونها الأساسي الذي صادق عليه الستّون مُؤتمِرا وتمّ تركيز المؤسسات من مجلس شورى ومكتب تنفيذي وانتخاب راشد الغنوشي من جديد أميرا على الجماعة وصالح كركر نائبا له.
تكوّن جهاز الجماعة آنذاك من مكتب تنفيذي أهمّ أعضائه: الفاضل البلدي وبنعيسى الدمني وصالح كركر وعبد العزيز التميمي وعبد الفتاح مورو ونجيب المكني. يجتمع مرة في الأسبوع أو أكثر بحسب الحاجة لتنفيذ توصيات مجلس الشورى المتكوّن من عمال المناطق. وكان الاتفاق أن يُعقد المؤتمر كلّ ثلاث سنوات.
لابدّ هنا من توقّف عند سؤال قانوني: تحت أي قانون اندرج هذا التشكيل التنظيمي الجديد والحال أنّ قانون الأحزاب سيظهر أوّل مرّة في القانون الأساسي عدد 32 لسنة 1988؟ بمعنى أنّ هذا التشكّل لم يكن حزبا سياسيا في معناه القانوني وإنّما هو في الواقع "جمعيّة" تخضع لقانون الجمعيات الصادر سنة 1959 بالقانون عدد 154، عندما كانت الدولة الحديثة تؤسس لترسانتها الدستورية والقانونية. ولهذا كانت تهمة "الاحتفاظ بجمعية غير مرخص فيها" هي أكثر التهم التي تلاحق الإسلاميين في تونس قبل الاعتراف القانوني ب"حزب حركة النهضة" بُعيد ثورة الربيع العربي.
بيد أنّ حدثا مفصليا قد قوّض تقريبا كلّ هذا الجهد في الوجود العلني بعيدا عن السريّة التي لم تمنع من تطوّر أجهزة الجماعة بسرعة وتسرّبها في النسيج المجتمعي مما جعلها "صيدا سهلا". وهو ما تمّ فعلا في الخامس من ديسمبر 1980 عندما انكشف التنظيم. وقد وردت في خصوص الحدث روايتان: فمن قائل أنّه وقع مسك حافظة وثائق عند أحد القيادات صدفة تضمّنت الهيكلة التنظيمية ومناشير سرية، ومن قائل أنّ وشاية قد بلغت الأمن الوطني باجتماع المكتب السياسي للجماعة في مقرّ جريدة "الحبيب" وهناك وقع العثور على أرشيف التنظيم. وكان هذا فاتحة لتاريخ طويل من المواجهات والتصعيد بين الجماعة والسلطة السياسية.
المؤتمر الاستثنائي.. مؤتمر سوسة
لم يستطع انكشاف الخامس من ديسمبر أن يعطّل عمل الجماعة أو أن يفتّ في عضد شباب تنظيم يستمدّ قوّته من "عقيدة ايمانيّة" تؤمن بفكرة "الابتلاء". ولعلّ هذا ما دفع إلى تغيير استراتيجي مهمّ بتحويل التنظيم من "جماعة" أقرب إلى الطائفة الدينية، إلى حزب مدني مشغول بالشأن العامّ. هذا التحوّل كان في أغلبه تحت ضغط الأمر الواقع بعد الذي حدث من انكشاف وهو ما رجّح رأي التيار المنادي بدخول التجربة الديمقراطية وقد امتدّت هذه القناعة عند بقية القيادات في معنى " التمكين السياسي طريق نحو السلطة".
بقي سؤال نعتقد أنّه ضروري طرحه في هذه المرحلة من القراءة يخص أحد أهمّ المطاعن التي أصبحت تتبع هذا التنظيم السياسي وتتصدّر بقية التهم الموجّهة إليه: هل تؤمن مثل هذه التنظيمات ذات الخلفيّة العقائدية والنزوع المذهبي "المتطرّف" بمقولات الديمقراطية من التداول سلمي على السلطة والتعددية الحزبية والاحتكام إلى ولاية الشعب والخضوع لدستور مدني بما يستتبع ذلك من ايمان بالحريات الفردية والخاصّة …؟ ليس ممكننا في سياق مقالنا هذا أن نحسم في قضية بمثل هذا التشعّب والالتباس، ولكن تواتر كتابات راشد الغنوشي التي تدور حول تلك المسائل وما يحايثها نحو تأصيلها في الفقه والعقيدة والتاريخ تحت ما يسمى ب"فقه الواقع"، دليل على حجم "الإحراج" الواقع فيه زعيم يريد نقل عقل تنظيم من "فقه السياسة الشرعية" إلى حزب سياسي مدني يؤمن بمقولات ليبرالية غربية.
نقول باختصار رغم ما فيه من إخلال، إنّ تنظيما يسعى منذ تأسيسه إلى مأسسة بُناه التنظيمية وهياكله المسؤولة عن اتخاذ القرارات وقيامه على مقولة "الشورى" ـ رغم ما تطرحه هذه المقولة من إشكال مفهومي ـ، ورغم ما يمكن أن يدخل على هذا في ظلّ التضييق الأمني من تعثّر واضطراب، فإنّ الممارسة الديمقراطية وتمثّلها مفهوما، لا يمكن أن يكون عارضا أو "حصان سباق" في مضمار الوصول إلى السلطة. وسنرى هذا أكثر في " مرونة الممارسة " سواء في التحالفات القادمة أو في التنازلات.
أدى انكشاف الخامس من ديسمبر إلى الزجّ بأغلب قيادات الصفوف الأولى في السّجن وهو ما حتّم التفكير في مؤتمر استثنائي يرمّم التنظيم وينجز تقديرا سياسيا للمرحلة، على ضوئه يقع تقييم ما مضى ووضع أفق للحركة. كان التقدير أنّ يتمّ المؤتمر في نفس الوقت الذي ينجز فيه الحزب الاشتراكي الدستوري ـ حزب السلطة ـ مؤتمره الخارق للعادة في 8 و9 و10 نيسان/ أبريل 1981 وكانت عين المؤتمرين الإسلاميين في مدينة سوسة على هذا المؤتمر أكثر مما هو بين أيديهم.
بعد مواجهات 78 وأحداث قفصة 1980 انكشف للزعيم بورقيبة هشاشة دولته واهتراء حزبه وبداية ظهور أزمة اجتماعية في الأفق كحصيلة لسياسة الانفتاح الاقتصادي التي انتهت بمرض الهادي نويرة وزير تلك المرحلة. وبتولّي محمّد مزالي، القريب من تيّار الهويّة، الوزارة الأولى كانت "رياح التغيير" تهبّ نحو ديمقراطية ولكن بأقدار مضبوطة أهمّها أن لا يقع المساس ب"رمزيّة الزعيم". وأهمّ ما أقرّه المؤتمر الخارق للعادة للحزب الحاكم هو "اقتناع الرئيس بضرورة فتح باب التعدديّة السياسية". ولم يكن المؤتمرون الإسلاميون آنذاك ينتظرون غير هذا ليعلنوا عن أنفسهم تحت اسم جديد:" حركة الاتجاه الإسلامي". لقد كان خيار العلنية والحضور السياسي في ساحة الأحزاب خيارا استراتيجيا عبّر عنه راشد الغنوشي بقوله:" وضع الحركة في مفترق الطرق: فإمّا أن نتطوّر وإمّا أن نتلاشى لأنّ السرية ما كانت تؤدّي بالعمل الإسلامي إلى مزيد من التأزّم والركود".
طرح مؤتمر سوسة قضيّة "الشرعية" بحدّة شبيهة بما يحدث الآن في الساحة التونسيّة. ولأوّل مرّة تجد الحركة نفسها في صراع غير معلن بين الشرعية التاريخية للقيادة المُؤسِسة القابعة في السجن ومشروعية الواقع الماثل في تصدّر قيادات من الصف الثاني والثالث. لقد كان الحضور الطلاّبي مؤثّرا تأثيرا بالغا. غير أنّ أهمّ ما انتهى إليه المؤتمر هو ما سمّي بـ"مشروع الأولويات".
أسئلة كثيرة سوف تعترضنا لاحقا: كيف تعاملت القيادة التاريخية مع " فورة شباب الجامعة" ومعارك الشرعية؟ ما علاقة "مشروع الأولويات" بالبديل "الإسلامي" الذي كانت تفتقده الحركة؟ كيف واجهت مرحلة ما بعد الإعلان عن نفسها في سياق أمني وسياسي متأزّم كان عنوانه "صراع أجنحة السلطة على ميراث الزّعيم"؟
مرحلة أخرى لها ما لها وعليها ما عليها.