منذ سنوات تواجه العلوم السياسية محنة حقيقية في العالم، ظهر الأمر بشكل مفزع مع الفوز المفاجئ لترامب بانتخابات الرئاسة الأمريكية سنة 2016، وما زالت هذه المحنة تتفاقم في عصر ما بعد الحقيقة.
لكن كل هذا لا علاقة له بالتهافت على "التكهن" الذي صار متاحا للجميع عبر منصات التواصل الاجتماعي، فالجميع يسارع إلى المراهنة على "سيناريو" محتمل الحدوث بصرف عن النظر عن منطقية بناء السيناريو.
يتعرض الباحثون وأهل الاختصاص للتهكم بسبب عجزهم عن التنبؤ بما يحدث، أو بسبب تكذيب الوقائع لتوقعاتهم، لكن ما نغفل عنه دائما هو أن توقعات كبار المسؤولين في الدول الأقوى لم تتحقق أيضا مع فارق مهم هو أن الدول تمتلك القدرة على تحيين قراءتها بناء على التدفق الهائل للمعلومات التي تجمعها أجهزة الاستخبارات وشبكات الدبلوماسيين المنتشرة عبر العالم.
في الحالة السورية يجب أن نفرق بين السعي إلى الحصول على المعلومات حول حقيقة ما جرى، وتحليل تلك المعلومات عندما يتم التأكد من مصداقيتها، والأهم من ذلك كله علينا أن ننتبه إلى أن تحليل حدث مستمر وواقع آخذ في التشكل ينطوي دائما على مجازفة، والأمر هنا لا يقتصر على غياب المعلومات فحسب بل على تفاعلات الأحداث الذي قد يدفعها في اتجاهات لم يتوقعها حتى الفاعلون أنفسهم.
قبل أيام فقط من سقوط نظام الأسد كان هناك شبه إجماع لدى المختصين في الغرب بأن دمشق ليست مهددة، والآن تتواتر الأخبار أن المعارضة السورية المسلحة نفسها تفاجأت بما حدث.
اليوم تبدو الروايات المتداولة حول ما جرى متقاربة ( ما نشرته الصحف الغربية، وما نقل عن دبلوماسيين ومسؤولين كبار مثل وزير خارجية إيران، وما نشرته مراكز تفكير معروفة) لكن هذا لم ينهي التباين الشديد حول قراءة ما جرى ( يمكن مقارنة الموقف الروسي المعلن ودور موسكو في الاتفاق الذي أنهى نظام الأسد مع قراءة أحد المفكرين الأكثر تأثيرا في روسيا، ألكسندر دوغين، كمثال على ذلك).
من المفهوم أن يحاول كل متابع لما يجري انتقاء ما يناسبه من تفاصيل لتعزيز أحكامه المسبقة وقراءته لما يحدث، لكن تلك القراءات لا يمكنها أبدا أن تحيط بكل تفاصيل الصورة لأنها لم تكتمل بعد، ورسمها يتكفل به الصراع على الأرض بين مختلف الفاعلين.
مثال آخر قد يكون مفيدا لشرح تحويل الوقائع إلى أداة لتبرير موقف سياسي أو إيديولوجي هو الخبر الذي يجري نشره منذ أيام حول تسليم بشار الأسد أو شقيقه ماهر إحداثيات مواقع الأسلحة الاستراتيجية والكيميائية للكيان الصهيوني الذي عمد إلى تدمير كل القدرات العسكرية السورية قبل أيام، والحقيقة أن المواقع التي تم تدميرها معروفة ومن ضمنها مطارات وقواعد جوية وبحرية مع كل ما فيها من عتاد وذخائر، فضلا عن المواقع التي يشتبه أنها مصانع لأسلحة أو معامل ومختبرات ذات صلة بإنتاج الأسلحة الكيميائية، وقد سبق لتلك المواقع أن تعرضت للقصف مرات عديدة خلال السنوات الماضية، ثم إن الذين ينشرون هذه الأخبار عن تسليم الاحداثيات هم أنفسهم الذين يقولون منذ سنوات إن الانكشاف الأمني السوري كامل، وأن الكيان يعرف كل شيء عن الجيش السوري ونظام الأسد، وأن سبب الانكشاف الأمني لحزب الله كان تورطه في الحرب الأهلية السورية وعلاقاته بالأجهزة الأمنية السورية.
لا تختلف ملاحقة الأحداث المتسارعة، التي تتفاعل وتنتج في كل لحظة واقعا جديدا، لتشكيل صورة عنها، دون التسلح بمعرفة خابرة، لا تختلف في شيء عن مطاردة السراب الذي يحسبه الظمآن ماء فإذا جاءه لم يجده شيئا.