لا يسعُ المرء الا ان يُصاب بصدمة وبحالة من الاشمئزاز وعجز عن التفكير والتعبير وهو يقرا الاخبار المُتواترة حول جريمة "اللوالب الفاسدة". اي تفسير او تاويل يمكن ان يستوعب جريمة ضد الانسانية بهذه البشاعة والاصرار والقصد يرتكبها من تعوّدت الانسانية على تسميته "ملاك الرحمة"؟ اي لغة يمكن ان تُنصف الضحايا الذين استسلموا للطبيب واستأمنوه على حياتهم فسلبهم مالهم وحياتهم معا؟ واي تعبير او مُفردات يمكن ان تشفي الغليل فتصفُ لنا مُستقبل العلاقة بين المريض والطبيب ؟ يقول علماء النفس والاطباء بان 80 بالمائة من الشفاء يتوقّفُ على حالة المريض النفسية والمعنوية والتي يستمدها اساسا من ثقته المطلقة في الطبيب ومن اطمئنانه له، ولكن، والحالة هذه ، من اين لنا بالثقة والاطمئنان؟ ماذا عساي اقولُ له لو جاء يتحسسني وانا مُمدّد ُُ امامه على طاولة العمليات؟ ااقول له " لا تأخذ كليتي، وهل ان اللولب فاسد ؟ وهل البنج ما يزال صالحا"؟ والماساة اكثر من هذا: قد يٌقسم لي بكل ايمان الارض بانه لن يفعل ذلك، وانه طبيب شريف، وان البنج صالح، ولكني لن اصدقه مُطلقا، فالثقة لا تُقامُ اذا هوت. لقد كان ديكارت على حق عندما قال "ليس من الحكمة ان نثق في من خدعنا ولو مرة واحدة". وسوف اتخيل نفسي عائدا الي منزلي لاقضّي ما كُتّب لي من ايام و قد ا ستبدُّت بي الشكوك والاوهام ، وان لم يقتلني اللولب الفاسد فسوف يقتلني البنج الفاسد، والا سوف تتكفّل بي الوساوسُ والظّنُون.
عُقُوقُ ابقراط وخيانة الانسانية
قسم ابوقراط: "أقسم "بابولون" وجميع الأرباب والربات وأُشهدهم، بأني سوف أنفذُّ قدر قدرتي واجتهادي هذا القسم وهذا العهد. وأن أجـعل ذلك الذي علَّمني هذا الفن في منزلة أبويّ، وأن أعيش حياتي مشاركًا إياه، وإذا صار في حاجة إلى المال أن أعطيه نصيبًا من مالي، وأن أنظر بعين الاعتبار إلى ذريته تمامًا كنظرتي إلى إخواني وأن أعلمهم هذا الفن -إذا رغبوا في تعلمه- دون مقابل، وأتعهد أن أعطي نصيبًا من التعاليم الأخلاقية والتعليمات الشفهية وجميع أساليب التعليم الأخرى لأبنائي ولأبناء الذي علَّمني وللتلاميذ الذين قبلوا بالعهد وأخذوا على أنفسهم القسم طبقًا لقانون الطب، وليس لأي شيئ آخر.. و اقسمُ ان لا أعطي عقارًا مميتًا لأي إنسان حتى وان سألني إياه، ولن أعطي اقتراحًا بهذا الشأن. (...) واقسم ان أحافظ على حياتي وفني بطهارة وتقوى. (...) وأيا كانت البيوت التي قد أزورها، فإنني سأدخل لنفع المريض، وان امتنع عن فعل أي شر مقصود او فساد ، و أن أظل بعيدًا عن جميع أعمال الظلم المتعمَّد، وجميع الإساءات وسوف أظل حريصًا على منع نفسي عن الكلام في الأمور المخجلة، التي قد أراها أو أسمعها أثناء فترة المعالجة وحتى بعيدًا عن المعالجة فيما يتعلق بحياة الناس، والتي لا يجوز لأحد أن ينشرها. فإذا ما وفيت بهذا القسم ولم أحِدْ عنه، يحق لي حينئذ أن أهنأ بالحياة وبالفن الذي شَرُفت بالاشتهار به بين جميع الناس في جميع الأوقات؛ وإذا ما خالفت القسم وأقسمت كاذبًا، فيجب أن يكون جزائي ان أُعامل بعكس ما اقسمت عليه" شكّل هذا القسم اساسا للقواعد الديونطولوجية والاخلاقية لممارسة مهنة الطب، منذ القرن السادس قبل الميلاد الي الان، وهو قسم يؤسس للقواعد الانسانية والقيمية بين الطبيب والمريض، والتي يمكن ان نلخصها في ما يلي : - يسعى الطبيب، قدر طاقته، في المحافظة على صحة المريض الجسمانية والذهنية. يُداوي الالم ويحافظ على صحة المريض، في اطار احترام كرامته الانسانية، وبدون أي افراط او تمييز بين المرضى، سواء في حالة السلم او حالة الحرب -اولوية الطبيب المُطلقة هي صحة وحياة المريض الذي بين يديه (على الطبيب –ان كان في جبهة القتال- ان يداوي الجميع حتى ان كانوا من اعدائه) -الطبيب هو مستودع اسرار المريض، يخون مهنته ان افشى اسرار مريضه -يُوظّف الطبيب مهاراته وعلمه لحفظ وتحسين حالة المريض، وليس له ، باي حال من الاحوال، ان يسعى في هلاكه. - في حالة الصراعات المسلحة او الحروب الاهلية، يحجّرُ على الطبيب ، ومهما كانت الحُجج، ان يشارك، او حتى ان يحضر عمليات القتل او التعذيب او أي شكل مُخل بالصحة والحياة الانسانية -يمارس الطبيب مهنته بضمير وشرف واستقلالية اذا كان ذلك ابقراط وتلك اخلاقه وتعاليمه فما الذي دهى بعضَ اطبائنا حتى يتحولون الي آلات جشعة وعمياء تُمارس القتل مُسبقُ الدّفع؟
سيكولوجيا الانسان الخاوي
هناك خلل كبير في منظومتنا الاخلاقية والتعليمية. لقد افرغت سنوات من التجريف القيمي "الانسان التونسي" من أي عمق وجودي او أي قيمة انسانية وحولته الي قصبة فارغة تذروها الرياح الاربعين. لقد انتج، يا سادتي، اهمال التعليم والثقافة والفن والاخلاق، هذه الكارثة التي نحن بصددها : ان يتحول الطبيب الي قاتل عن قصد وتصميم. ان تركيز التعليم عن الكم وليس عن الكيف، وتركيز الاعلام على الاثارة والاشهار و"البوز"، وتركيز الثقافة على ماهو مُربح وليس على المعنى والعمق، كل هذا قد انتج انسانا هو اشبه بعنكبوت اعمى، ليس له من هدف غير تسلّق سُلّم الامتيازات المادية، بدون أي اعتبار للوسائل. انه انسان ذو بعد واحد، على تعبير هربرت ماركوز: البُعد الاستهلاكي/ الاهلاكي. لقد تحوّل الانسان الي شيئ: المريض المسجى على طاولة لا يعدو ان يكون شيئا في نظر الطبيب، والعلاقة بينهما لا تتجاوز المقص والمشرط والابر وحقن البنج الفاسد، انه اداة للربح. هوى الانسان الي منزلة الالة التي تتحرك ميكانيكيا وتبحث فقط عن الربح والاشباع المادي ، فهوى المريض من منزلة الانسان الي منزلة الموضوع، ليس له من بُعد، في نظر الطبيب غير الطول والعرض والعمق، انه شيئ، تقعُ مبادلته مقابل شيئ: حفنة من الدنانير.، وهذه مفارقة: الانسان الذي خلق العملة لكي يتبادلها لشراء السلع اللازمة للمحافظة على حياته، تقع مبادلة حياته من اجل تحصيل مزيد من العملة. غير ان هناك جدلية بين القاتل والمقتول
الملك "ميداس"
تقول الاسطورة ان "ميداس" كان ملكا ثريا، تماما كالطبيب، الذي يجني يوميا الف دينار ويملك منزلا وسيارة ورصيدا صالحا في البنك، اضافة الي انه لا يدفع الضرائب. غير ان "ميداس" كان جشعا بشكل مريع-تماما كالطبيب- كان يريد ان يصبح اكثر مالا واكثر ذهبا واكثر فضة كل يوم. تقول الاسطورة انه صعد الي معبد "ابولون" –ذلك الذي اقسم باسمه ابوقراط- وطلب منه طلبا غريبا "الهي ، اريد ان يتحوّل كل شيئ المسه الي ذهب"، حينها نقم عليه "ابولون" واستجاب لطلبه ، فسمع هاتفا من السماء يقول له "ميداس، اذهب فسوف يتحوّل كل شيئ تلمسه الي ذهب". اسرع "ميداس فرحا الي بيته، وصل وهو في منتهى الجوع والعطش، مدّ يده الي الخبز فتحوّل الي ذهب، حاول ان يروي عطشه غير ان الماء في الانية تحوّل الي ذهب…مات "ميداس " جوعا وعطشا بفعل جشعه المفرط. وتلك لعمري وضعية الطبيب الذي يزرع لولبا فاسدا في قلب مريضه: لقد شيئ مريضه وحوّله الي مجرد وسيلة للربح وخاليا تماما من القيمة الانسانية، فتحوّل بدوره الي كائن بلا قيمة او روح، مجرّد هامة تتحرّك لجمع المال، ومعدة يملؤها الكافيار المُلطّخ بدماء الابرياء والفقراء الذي باعوا اغراضهم او ارتهنوا للبنوك او اقترضوا ما به ينقذون حياتهم، الا ان الطبيب خانهم: لقد تحوّل الي مسخ ليس له من الانسانية غير الشكل ، تماما مثل ما تمثّل هو المريض: مجرد طول وعرض وعمق، شيئ، اي موضوع.
الدواعش السود والدواعش البيض
قد يقول البعض "لقد بلغت من امرك شططا في تشبيهك للاطباء الذين زرعوا اللوالب الفاسدة بالدواعش، وان هذا لكلام قاس"، وردي بسيط جدا "هل هو اقسى وامر من الجريمة؟" يشترك الدواعش السود والدواعش البيض في عدة نقاط: منها الخواء الفكري والقيمي، والقتل الاعمى، وكلاهما "بسيكوبات"، الاول مهوس بخيرات الاخرة، جواري وانهار من عسل وخمر وغلمان مخلدون، وابكار تتفُلُ على البحار فتصيّرها ماء زُلالا، وترجع بكارتها بعد كل اتصال جنسي…والثاني مهوس بخيرات الدنيا ويمارس القتل لاجل سيارة فارهة ومنزل كثير المسابح والظلال، وشطوط ازوردية في "كان" او في "هاواي"، وخمور وابكار حسان، و كافيار وبساتين وجنان…غير انه والحق يقال، ولو قُدّر للمرء ان يختار بين هتين المصيبتين، لقلنا بان الداعشي الاسود اهون بكثير من الداعشي الابيض، وذلك للامر البسيط التالي: انه يقتلك و"اجره على الله"، أي انك ستُذبحُ ولن تدفع شيئا من جيبك، وانما الله –تعالى عن ذلك سبحانه- هو من سيتكفّل بثمن العملية في الدار الباقية، اما الداعشي الابيض-لانه دنيوي- لن يرضى الا بقبض ثمن القتل العمد "الان وهنا"، فلا يكفيه ان يسرق روحك وانما يسرق مالك ايضا. كما ان هنالك فرق اخر يجعل من الداعشي الاسود "ارحم" من اخيه الابيض: يكفي ان تقول له "اني بايعتك يا مولاي واني اول من آمن بك وصدّق"، حتى يُخلي سبيلك، اما الابيض فلا حيلة معه، انه لن يرضى يغير قبض روحك. ولا حول ولا قوة الا بالله.
الفساد…الفساد
تبلغُ المرارة مُنتهاها، وتصلُ التراجيديا هالتها العُليا عندما يقول السيد سعيد العايدي " لقد تعرّضتُ لضغوطات في فضيحة اللوالب منتهية الصلوحية"، فاين المفر؟ فأيّا على جانبيك تميلُ ايها التونسي؟ اين المُشتكى؟ هذا المسؤول السياسي الذي انتخبناه، والذي يُفترضُ ان يسهر على سلامتنا وامننا وحياتنا يقول "تعرّضتُ لضغوطات". ضغوطات ممن؟ ولماذا؟ هل يريدون التغطية على الجريمة حفاظا على سمعة ومصلحة العيادات؟ وصحة وسلامة وحياة التونسي، من لها؟ اليس في هذا اقرار صريح بالتواطؤ الذي يعاقب عليه القانون؟ اليست التغطية على الجريمة مُشاركة فيها؟ سادتي، ان الفساد في معناها الاصيل، هو انحلال واندثار الكائن، هو سير نحو الموت والعدم، وان الفساد هو طريق الجحيم الذي يُسرعُ بالمجتمعات والدول والحضارات نحو الهلاك والاندثار.
ولان السياسة في معناها الاصيل ايضا هي فن تدبير المدينة والمحافظة على المجتمع الانساني وتسيير شؤونه، لذلك لا امل ان غرق السياسي في الفساد او تواطا معه. وان انتشار الجريمة والفساد لم يأت من فراغ: لو تعُدون القضايا والجرائم المنسية والمسكوت عنها والتي ما زلنا ننتظر عنها جوابا شافيا، فلن تكفيكم اصابعكم في العدّ، بداية من قتل ابناء الفقراء من 17 ديسمبر حتى 14 جانفي، اغتيال الشهيدين شكري والبراهمي، وصفقة بنك "لازار" الي وثائق بنما…
اذا اضفنا الي هذا "المصالحة" مع من سرقوا 7000 مليار من دماء ودموع وعرق الشعب، فان هذا لن يؤدي الا لظهور ثقافة جديدة هي ثقافة الفساد والجريمة والهروب من المسؤولية والرشوة والتواطؤ مع الفاسدين والعبث بالقانون. ان سياسة "غطّي عليّ باش نوقف معاك في الغصرة" وافرح بيّ، نفرح بيك، و"كول و وكّل"، هي التي ضغطت على سعيد العايدي، وهي التي هوت بالطبيب فتردّى في ما دون الانسانية، وهوت بالمريض الي مرتبة الشيئ/البضاعة، وبالتالي فان اللوالب الفاسدة سليلة اللوبيات الفاسدة. اقول هذا واستغفر الله لي ولكم، اللهم لا تتوفّانا لا مغدورين ولا مقهورين، آمين.