أثبتت الحرب الأطلسية على شعب غزة أن أحقر فئة في الغرب هم من يطلقون على أنفسم «العلمانيين» و«الليبراليين» و«اليساريين»، وفي مقدمة هؤلاء السفلة منظمات حقوق الإنسان و تلك التي تدعي الدفاع عن حقوق النساء. فمن يتابع الإعلام الغربي بأشكاله كلها، التقليدية منها والبديلة، أصبح متعذراً عليه أن يرى حدوداً فاصلة بين هؤلاء الأوغاد وبين أوغاد اليمين العنصري وحثالات «المحافظين الجدد» حين يتعلق الأمر بأي جهة تقاتل أو تعادي إسرائيل،أو حتى بتعاليم «الشريعة اليهودية»العنصرية.
صبية إيرانية تموت بسبب مرض خَلقي/ ولادي تتحول إلى سبب لانتفاضة عالمية ضد النظام الإيراني بدعوى حقيرة تزعم أنها قتلت عمداً من قبل شرطة النظام، رغم ثبوت كذبها بتسجيل فيديو موثق.
أما فتوى كبير حاخامات الجيش الإسرائيلي «إيال كريم» بجواز«اغتصاب نساء الأعداء الفلسطينيين (الغوييم) خلال زمن الحرب، عملاً بتعاليم التوراة»، فلن تجد عنها خبراً واحداً في أي وسيلة إعلام غربية على الإطلاق، لا يمينية ولا يسارية ولا حقوقية، رغم نشر الفتوى في كبرى وسائل الإعلام الإسرائيلية؛ علماً بأن المذكور، الذي عُين مؤخراً كمسؤول عن جهاز التوجيه المعنوي والإرشاد الروحي لجيشه، يرافق جنود عصابات هذا الجيش على تخوم غزة الآن ليشرح لهم التعاليم التوراتية في طريقة التعامل مع أطفال ونساء العدو خلال الحرب.
في الوقت نفسه ، تتصدر الأكذوبة الغبية والحقيرة عن اغتصاب الأسيرات الإسرائيليات من قبل مقاتلي «حماس» خلال غارة 7 أكتوبر الماضي ... الإعلامَ الغربي كله عن بكرة أبيه، مسموعاً ومقروءاً ومرئياً. (بالمناسبة: ولا وسيلة إعلام واحدة من هذا الإعلام الوضيع سألت نفسها:كيف تمكن مقاتلو «حماس» من اغتصاب نساء وهم في حالة هجوم واشتباك وتحت قصف الطائرات الإسرائيلية يوم 7 أكتوبر، ولم يغتصبونهن في الأنفاق الآمنة التي بقين فيها أكثر من شهر!؟ ).
على مدار عشرات السنين كنا نتفاخر بعلمانيتنا ويساريتنا. الآن أصبحنا نخجل منها، كما لو أنها تهمة شبيهة بتهمة الدعارة والسطو، بسبب هؤلاء الحثالات وأشباههم وامتداداتهم وأذنابهم في عالمنا العربي.
كل ابن كلب بده يحاضر فيني من يوم وطالع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان بالغرب، بدي ألعن أبوه بصرماية.
أيضاً و أيضاً عنه، وعن قصص جرائمه المجهولة التي لا تنتهي:
ذلك الذي أمر بتسميم الشاعر «بابلو نيرودا» وبهرس أصابع «فيكتور جارا» بالمطرقة وبقطع لسانه لأنه غنى وعزف قصائده، وأمر بتفجير سيارة وزير الخارجية التشيلي«ماركوس أورلاندو ليتيليير».... في قلب واشنطن!
كان «كيسنجر»، ولا يزال، هو الوحيد في تاريخ الولايات المتحدة الذي جمع بين منصبي مستشار الأمن القومي و وزير الخارجية. وقد أتاح له منصبه الأول أن يشرف مباشرة على جميع جرائم وكالة المخابرات المركزية في العالم خلال الفترة 1969-1977، من انقلابات أميركا الجنوبية غرباً، لاسيما الانقلاب على الرئيس المنتخب «سلفادور الليندي» في تشيلي، إلى باكستان(الشرقية/ بانغلادش) وتيمور الشرقية وحروب الهند الصينية شرقاً، بما في ذلك إعطاء الأوامر بقصف المدنيين في فيتنام وكمبوديا ولاوس، ليس بالطائرات الاستراتيجية (بي 52) فقط، بل و بـ «العامل البرتقالي» أيضاً، وهو سلاح كيميائي اخترعته الولايات المتحدة فقط من أجل حرق غابات وأدغال وقرى الهند الصينية كبيئة حاضنة لثوار الفيتكونغ. وهو بالمناسبة ما فعلته إسرائيل في جنوب لبنان على مدار الشهر الماضي حين أقدمت على حرق أكثر من خمسمئة هكتار من الأحراج بالفوسفور(وفق إحصاء وزارة الزراعة اللبنانية) لكي لا يستخدمها مقاومو «حزب الله».
ومن أجل إخفاء جرائم القصف، أقدم على تزوير السجلات السرية الخاصة بمواقيت إقلاع وهبوط القاذفات، كما كشف الصحفي «اليهودي» الشاب يومها، «سيمور هيرش»، الذي أصبح في يومنا هذا أحد أعظم صحفيي التحقيقات في التاريخ وغنياً عن التعريف،وقد شارف على التسعين من عمره اليوم،ولا يزال يطارد المجرمين الأميركيين وأعوانهم دون كلل وفي كل مكان، من «غوطة دمشق» حيث زودتهم الطائرات الأميركية بالقذائف الكيميائية من بقايا ترسانة «القذافي» لاتهام النظام السوري باستخدامها، إلى بحر الشمال، حيث أقدم عملاؤهم على تفجير أنابيب الغاز القادمة من سيبيريا!
ومع ذلك، يبقى انقلاب «أوغستو بينوشيه» ضد الرئيس «أليندي» يوم 11 أيلول / سبتمبر1973في تشيلي أحد أشهر جرائم «كيسنجر»، بسبب الدموية والوحشية التي رافقته منذ يومه الأول حتى إطاحته في العام1990، وبسبب الأوامر «الغريبة» التي أصدرها «كيسنجر» شخصياً، والتي تكشف عن جانب وحشي مرضيّ من تكوينه الشخصي والنفسي. لكن وقوف وكالة المخابرات المركزية خلف الإنقلاب بقي مجرد حديث تقارير صحفية وتسريبات على مدى أكثر من أربعة عقود، وإلى أن أفرجت وكالة المخابرات المركزية و الأجهزة الأمنية والعسكرية الأميركية الأخرى في العام 2017، بأومر «أوباما»،عن آلاف الوثائق التي تكشف دور الولايات منذ العام 1970، حين فاز «أليندي» في الانتخابات، في التخطيط لإطاحته، بدءاً من شراء الصحف والصحفيين وانتهاء بتجنيد الضباط كعملاء، مروراً بالدور الذي لعبته الشركات الأميركية التي خسرت امتيازاتها بعد فوزه في انتخابات رئاسة الجمهورية ، كشركات النحاس وشركة الاتصالات الأميركية(1). علماً بأن إدارة «أوباما» كانت أفرجت قبل ذلك عن بعض الوثائق ذات الصلة في العام 2010.
كانت الحصيلة الفورية المباشرة للانقلاب مذبحة مروعة راح ضحيتها أكثر من ثلاثة آلاف من أنصار الرئيس، من مختلف الأحزاب الشيوعية والاشتراكية والتقدمية الأخرى المؤيدة له، بل ومن الوطنيين العاديين،واعتقال أكثر من مئة وثلاثين ألفاً منهم بعد تحويل ملاعب كرة القدم إلى سجون من أجل استيعاب أعدادهم الضخمة، فضلاً عن نشر كتائب الموت (الشبيحة) في كل مكان من تشيلي لسحب الناس من غرف نومهم إلى أماكن مجهولة. ولعل أشهر أولئك الضحايا، فضلاً عن الرئيس نفسه، الشاعر الكبير «بابلو نيرودا» الذي جرى تسميمة ببكتريا مستنسخة ومطورة في مخابر أميركية (وربما إسرائيلية؟) من فصيلة «كلوستريديوم البوتولينوم Clostridium botulinum »، والموسيقار المغنّي الشهير «فيكتور جارا»، الذي جرى تحويل جسده إلى غربال ، حيث قتل – بسبب الحقد- بأربع وأربعين طلقة رشاش، ولكن بعد هرس أصابعه بمطرقة! ويومها أمر «كيسنجر» شخصياً بإرسال صواريخ الطائرات للانقلابيين من أجل قصف قصر«لامونيدا» الرئاسي الذي كان يتحصن فيه الرئيس «أليندي» مع حرسه الشخصي حتى استشهاده. وحين بدا أن المذبحة لن تتوقف، اتخذت قيادة ألمانيا الشرقية (رغم معارضة الاتحاد السوفييتي، على عادته القذرة المزمنة، وبفعل تفاهم «سياسة الانفراج» مع الولايات المتحدة) قراراً بتنفيذ عملية سرية (بحرية وبرية وجوية) لتهريب آلاف الكوادر من تلك الأحزاب، فضلاً عن أساتذة جامعات وصحفيين ومثقفين كانوا سيلاقون مع عائلاتهم المصير نفسه.
ويومها أوكل المكتب السياسي للحزب الاشتراكي الألماني قيادة العملية للفريق «هورست يينيكه Horst Jänicke»، نائب رئيس جهاز المخابرات الخارجية ورئيس دائرة العالم الثالث وحركات التحرر الوطني في الجهاز، مستنداً إلى قاعدة لوجستية خلفية في كوبا. وقد أتيحت لي الفرصة في العام 2002 أن ألتقي هذا الرجل الاستثنائي «يينيكه» في برلين، والذي أخبرني بقصص مذهلة عن تلك الأيام. كما وأتيحت لي الفرصة (بفضله) أن ألتقي أحد أشهر من أنقذتهم العملية الألمانية الشرقية، وهوعالم الاقتصاد الأشهر في النصف الثاني من القرن العشرين «أندريه غوندر فرانكAndre Gunder Frank»، الألماني الأصل،الذي كان يوم الإنقلاب مستشاراً للرئيس «أليندي» وأستاذاً في جامعة سانتياغو، وجرى إنقاذه (مع زوجته عالمة الاجتماع التشيلية الشهيرة «مارتا فوينتس Marta Fuentes » وطفليهما) من خلال أحد ضباط ألمانيا الشرقية بعد مسيرة مئة كيلو متر في الأدغال والأحراج والجبال الوعرة التي يزيد ارتفاعها عن ثلاثة آلاف متر على الحدود بين تشيلي والإرجنتين!!
لكن ما لا يزال مجهولاً تقريباً أرشيف المخابرات الخارجية في ألمانيا الشرقية عن العملية، بسبب حرق معظم وثائقه في العام 1989 و1990. ولأن هذا الجهاز كان الأعظم في التاريخ من حيث إنجازاته المهنية، باعتراف وكالة المخابرات المركزية، فقد تمكن رئيس محطته في أميركا الشمالية (الكولونيل «بريست» (2)، من تسجيل حتى مكالمات "كيسنجر" مع أعوانه ومع ضباط الـCIA و قادة الانقلاب، بما في ذلك إعطاؤهم الأوامر بتسميم الشاعر «بابلو نيرودا» و «هرس أصابع فيكتور جارا وقطع لسانه لكي لا يقدر بعد الآن على تلحين وعزف وغناء قصائد نيرودا! ».
لكن الأكثر إثارة للانتباه في تلك الوثائق والتسجيلات، حديث نيكسون عن نتائج الانتخابات التشيلية التي فاز فيها الرئيس أليندي على المنافسين، عملاء الولايات المتحدة. ففي هذه التسجيلات يقول نيكسون ما حرفيته :«لا أفهم لماذا يتعين علينا أن نقف مكتوفي الأيدي ونشاهد بلدًا يتحول إلى الشيوعية بسبب غباء شعبه وعدم إحساسه بالمسؤولية(…) ولهذا يجب أن لا نسمح للناخبين التشيليين أو نتركهم لكي يقرروا مستقبل ومصير بلدهم! ».
لم تقتصر جرائم «كيسنجر» على المذبحة التي حصلت في تشيلي، بل اتخذ قراراً بمطاردة واغتيال من نجا وفرّ من وزراء حكومة الرئيس «أليندي» حيثما كانوا في العالم. ولم ينج منهم يومها إلا من تمكنت استخبارات ألمانيا الشرقية من نقلهم إلى بلادها أو إلى كوبا والجزائر والصين وفنزويلا وأماكن أخرى سرية، بمن في ذلك ابنة عمه الروائية «إيزابيل أليندي»، التي كانت في الثلاثين من عمرها، ولم تكن كاتبة معروفة يومها، والتي هرّبها ضباط ألمانيا الشرقية إلى فنزويلا مع أمها وأفراد أسرتها!
لكن فجور كيسنجر وحقده المرضي الأسود على حكومة «أليندي» دفعه حتى إلى إعطاء أوامر باغتيال وزير الخارجية والدفاع سابقاً في حكومة «اليندي»، البروفيسور وأستاذ الاقتصاد «ماركوس أورلاندو ليتيليير Marcos Orlando Letelier»في قلب واشنطن نفسها، بسبب تاريخه الكفاحي ضد شركات النحاس الأميركية في بلاده!
كان «ليتليير» أول من اعتقلهم «بينوشيه» بعد الانقلاب. وبعد حوالي عامين من الاعتقال والتعذيب الوحشي الذي تعرض له، أفرج عنه بضغط دولي، نظراً لسمعته العلمية. وفي فترة لاحقة حصل على وظيفة أستاذ جامعي في الولايات المتحدة. إلا أن حقد «كيسنجر» عليه، بسبب تاريخه في محاربة شركات النحاس، لم يكن انطفأ. ولهذا، ولأسباب تسمح له بالإفلات من الملاحقة القانونية في حال انكشاف أمره، أعطى "كيسنجر" موافقته الشخصية لمنظمة إرهابية كوبية تعمل مع وكالة المخابرات المركزية باغتيال "ماركوس ليتيلير" في 21 سبتمبر 1976 بسيارة مفخخة …. في قلب واشنطن نفسها!!
الهوامش
(1) ـ الوثائق الأميركية المفرج عنها في العام 2017 ، الأرشيف الوطني الأميركي :
ويوم وفاة كيسنجر قبل أربعة أيام، رفع الأرشيف الوطني الأميركي السرية عن آلاف الوثائق الخاصة بكيسنجر وجرائمه ومؤامراته، مخالفاً بذلك وصية كيسنجر التي تنص على عدم رفع السرية عنها إلا بعد وفاته بخمس سنوات . هنا رابطها:
(2) ـ لا يزال "بريست" إحدى الشخصيات المجهولة حتى اليوم، ولا أحد يعرف حتى اسمه الحقيقي( له أكثر من أربعة أسماء، لا يعرف أيها الحقيقي وأيها المستعار!). ويعتبر «الثقب الأسود» لأسرار الحرب الباردة، لاسيما حجم الخراب الذي أنزلته مخابرات ألمانيا الشرقية بمؤسسات الولايات المتحدة، المدنية والأمنية والعسكرية.و بأوامر الولايات المتحدة، أصدرت الحكومة الألمانية قراراً بعد الوحدة يمنع الحديث عنه في الصحافة حتى العام 2035، حين يكون بلغ من العمر مئة عام، إذا كان لا يزال على قيد الحياة في مكان ما من العالم!