إذا كان حلفاؤه هكذا، فتصوروا ما يقوله خصومه حتى لو لم تشاهدوهم على القنوات اللبنانية! نائب رئيس «التيار الوطني الحر» يطالب القضاء اللبناني بملاحقة «حزب الله» بسبب ...تصديه للإسرائيليين، ويصفه بأنه «إرهابي! »
بخلاف موقفي «العاطفي» خلال الأسابيع الأولى من الحرب على غزة، أصبحت مقتنعاً تماماً الآن بأن أعظم قرار استراتيجي اتخذه «حزب الله»، على عكس«عبد الناصر» في العام 1967، هو عدم دخوله في حرب مفتوحة مؤخراً. ولو فعلها لكانت نهايته ونهاية لبنان أسوأ من نهاية «عبد الناصر» ومصر في حرب يونيو/ حزيران 1967، ليس على يد الإسرائيليين، فهو قادر على مواجهتهم وكسرهم عسكرياً(بالمعنى التقني البحت :عسكر في مواجهة عسكر)،ولكن على يد إسرائيليي الداخل اللبناني (وهم حوالي 60 بالمئة من الشعب اللبناني أو أكثر، ومن مختلف الطوائف، بمن في ذلك ما يسمى «شيعة السفارة» / الشيعة المحسوبين على السعودية وعربان الخليج)، وعلى يد «قنّاص قصر المهاجرين» السوري نفسه، الذي كان ينتظر فرصة من هذا النوع ليبيع ويشتري كأي تاجر شامي محتال، كما فعل خلال «حرب تموز 2006 »(طبعاً دراويش «المقاومة والممانعة» لا يعرفون ذلك رغم أنه معزز بوثائق رسمية منشورة. ومن يعرف منهم، لا يستطيع عقله العصفوري أن يستوعبه أو يصدقه!).
كانت «الشعبوية» ، أي الانقياد لمشاعر غوغاء ودهماء الشارع، إحدى صفات «عبد الناصر» الأساسية. وبسبب هذه الشعبوية،لم يتردد في الوقوع في الفخ الذي نصبه له الجاسوس «محمد حسنين هيكل»، بالتنسيق مع وكالة المخابرات المركزية و السعوديين في العام 1967 خصوصاً. فبعد أن كان «ناصر» على بُعد ساعات من اجتماع «تاريخي» سري مع رئيس الوزراء الإسرائيلي «ليفي أشكول» في موسكو، بترتيب من «بريجينيف»، والذي تراجع عنه بعد منتصف ليل 28/29 أيار بسبب التهديد الذي تلقاه من الرئيس السوري «نور الدين الأتاسي» و وزير خارجيته «ابراهيم ماخوس»،اللذين اتصلا به في 28 أيار/ مايو من موسكو فور أن علما بقصة اللقاء من «بريجينيف» نفسه، قرر أن يذهب إلى الفخ برجليه!
كان دور«هيكل»، كأخطر وأوسخ جاسوس في تاريخ العرب الحديث، محصوراً في إقناع «ناصر» بسحب قوات الأمم المتحدة من سيناء وإغلاق «مضائق تيران» أمام الملاحة الإسرائيلية،وهو ما نجح فيه. فقد كان مستشاره الذي لا يردّ له كلمة. وكان هذا ضرورياً لخلق الذريعة لإسرائيل والولايات المتحدة لتدمير الجيش المصري وتغيير وجه المنطقة إلى الأبد.
أما دور الصهاينة السعوديين العتاة،على عادتهم المزمنة منذ تأسيس مملكتهم المسخ، ومعهم إذاعة الجاسوس الأردني المخضرم «حسين» ، فكان محصوراً بالتهويش على «ناصر» ليلاً نهاراً و وصفه بأنه «جبان و علاك و كذاب ويتاجر بالقضية الفلسطينية ولا يتجرأ على محاربة إسرائيل ...إلخ»(وهي الأسطوانة نفسها التي نسمعها اليوم من الغوغاء والدهماء والجواسيس ضد «حزب الله»، وإن اختلفت الدوافع). وكان هذا كله من «عدة الشغل» لكي يتم اصطياده، أو بالأحرى اصطياد مصر لكي لا تقوم لها قائمة. وكانت الولايات المتحدة اتخذت قراراً بتصفية النظام الناصري بعد سنوات العسل الطويلة بينهما،وبعد أن «أدى عبد الناصر دوره كأعظم مكنسة لوكالة المخابرات المركزية في كنس الشيوعية والنفوذين البريطاني والفرنسي من العالم العربي لتحل الولايات المتحدة محلهما»، وفق التعبير الحرفي الذي كان يستخدمه مدير الـCIA «آلن دالس» في تقاريره إلى الرئيس «إيزنهاور» في الخمسينيات.
بقية القصة معروفة: خلال ست ساعات كان الجيش الإسرائيلي اجتاح سيناء، و جميع المطارات والطائرات المصرية أصبحت في خبر كان؛ وكان عشرات الآلاف من الجيش المصري أصبحوا أسرى، قبل أن يجري إرغامهم على حفر قبورهم بأيديهم ثم حصدهم بنيران رشاشات الطائرات المروحية الإسرائيلية ورشاشات جنود الاحتلال ودفنهم في القبور التي حفرورها،علماً بأن المئات منهم دفنوا أحياء بالجرافات لأن جراحهم لم تكن قاتلة، كما يحصل الآن في غزة!( كم مصرياً يعرف اليوم هذه القصة، حتى بعد أن كشفها فليم وثائقي إسرائيلي قبل حوالي عشرين عاماً!؟).
«نصر الله»، وكما أثبتت التجربة معه طوال العقود الثلاثة الأخيرة، عقل استراتيجي قل نظيره. فقد أدرك منذ اللحظة الأولى أن الدخول في حرب مفتوحة هذه المرة(خارج قواعد الاشتباك المعمول بها منذ «تفاهم نيسان» 1996) سيكون مختلفاً كلياً عن حرب تموز 2006. فشروط المعركة الآن مختلفة كلياً على جميع الصعد. وهذا ما يقر به الإسرائيليون أنفسهم، حيث يؤكدون أنه بحربه المحدودة ضمن قواعد الاشتباك لم يترك لنا ذريعة لتطبيق «خيار غزة» على لبنان؛ والألعن من هذا أنه تمكن من تشريد سكان 27 مستوطنة (80-100 ألف مستوطن) وتدمير أكبر «خط دفاعي إلكتروني» في العالم،و تحييد حوالي ألفي جندي إسرائيلي خارج الخدمة (وفق سجلات المشافي)، وشلّ القطاع السياحي والزراعي والصناعي في الشمال كلياً، دون أن يضطر للدخول في حرب مفتوحة.
ولعل الشرطين المتغيرين الأكثر خطورة ما يتعلق بسوريا و الداخل اللبناني. فسوريا الدولة والشعب، وبسبب الدمار والحصار، لا تستطيع الآن احتضان نصف مليون لبناني على الأقل ستهجّرهم أي حرب مفتوحة قد تحصل، فضلاً عن عدم إمكانية أن تكون خط إمداد وجبهة لوجستية خلفية، كما كانت في العام 2006. وأما سوريا النظام، وبسبب الضيق والحصار، فعلى استعداد للبيع والشراء أكثر من أي وقت مضى لمشاركة الغرب في أي حصار ضد «حزب الله» إذا ما اندلعت حرب من هذا النوع، من خلال المقايضة.
فعلينا أن لا ننسى أن النظام تعاون مع وكالة المخابرات المركزية، وإسرائيل من خلالها، في اصطياد عدد من خيرة قادة «حزب الله» الأمنيين والعسكريين وحلفائهم(منذ «عماد مغنية» إلى «قاسم سليماني»، مرواً بـ «مصطفى بدر الدين») مقابل أثمان سياسية وديبلوماسية. ( في مقابلته مع «سيمور هيرش» في مجلة «نيويوركر»، عدد 28 تموز من العام 2003، اعترف «بشار الأسد» بأنه يقدم خدمات أمنية لوكالة المخابرات المركزية لحماية جنودها في الشرق الأوسط كله. وقد خضعت المقابلة للرقابة حين ترجمتها من قبل إعلام النظام، فجرى شطب هذا المقطع منها عند الترجمة!). وعلينا أن لا ننسى أن «حافظ الأسد» نفسه أعطى أوامره بإطلاق النار على عناصر «حزب الله»، وارتكب بحقهم مجازر حقيقية (مجزرة«ثكنة فتح الله» في العام 1987 ومجزرة أيلول في العام 1993)، بسبب معارضتهم لاتفاق أوسلو، و لأنهم رفضوا الخضوع لأوامر المخابرات السورية في تسجيل جميع قطع السلاح (بالعدد والنوع) لدى حواجز هذه المخابرات حين نقلها من مستودعاته في بعلبك – الهرمل إلى الخطوط الأمامية في الجنوب! ذلك دون أن ننسى أن «حافظ الأسد»، وبالاتفاق مع الولايات المتحدة، أطلق زعران حركة «أمل» طوال الثمانينيات في وجه «حزب الله» لتشتيت جهدهم في التحرير، فحصلت بين الطرفين مواجهات دموية عديدة، لاسيما بعد معارضة الحزب لـ «حرب المخيمات الفلسطينية» التي شنتها «أمل» والفصائل الفلسطينية الموالية لدمشق و«جنبلاط» ضد هذه المخيمات في العام 1985 ).
وأما الشرط اللبناني الداخلي فأكثر سوءاً من أي وقت مضى، ليس اقتصاديا فقط، بل وسياسياً وأمنياً و طائفياً. ففي حال حصول حرب مفتوحة، لا يوجد مكان يذهب إليه مئات الآلاف من المهجرين المتوقعين. ومنذ 8 أكتوبر، تاريخ بدء الأعمال العسكرية ضد إسرائيل، وقف قسم كبير من اللبنانيين ضد حتى هكذا تدخل محدود. ولم يتردد كثيرون منهم في الإعلان صراحة: لن نستقبل أي مهجر شيعي من جنوب لبنان في بيوتنا! ولا أدل على ذلك من أن هناك اليوم حوالي 75 ألف مهجر من جنوب لبنان، بسبب الحرب المحدودة، لم يذهب أي منهم إلى «مناطق الطوائف الأخرى»، باستثناء عدد محدود جداً وجد الآخرون فيهم فرصة للتكسب من خلال تأجيرهم بيوتاً وشققاً مقابل مبالغ طائلة، كما يفعل تجار الحرب عادة في كل مكان وزمان!
وليس دون أهمية خاصة تلك التقارير التي تتحدث عن طائرات الحلف الأطلسي التي تنقل على مدى ساعات الليل والنهار شحنات مجهولة إلى مطارات لبنان العسكرية بالتنسيق مع قائد الجيش، العميل الأميركي – الفرنسي «جوزف عون» ورئيس الحكومة، العميل السعودي «نجيب ميقاتي». وهناك قناعة تامة بأن هذه الطائرات تنقل معدات عسكرية لصالح قوى لبنانية، لكي تكون على استعداد للعب دور جيش رديف للجيش الإسرائيلي في حال اندلاع حرب مفتوحة. ذلك دون أن ننسى أن في جنوب لبنان وحده أكثر من 80 ألف لاجىء سوري، قسم كبير منهم مستعد – لأسباب طائفية وسياسية وشخصية مختلفة – لأن يلعب دور «الطابور الخامس» لأي غزو إسرائيلي.
وعملياً يكفي أن تقوم بقطع الطرق بالمظاهرات لكي تحرم المقاتلين في الجنوب من الإمداد من مستودعاتهم الخلفية في البقاع الشمالي (بعلبك / الهرمل)، أو على الأقل تشل أو تشوش حركتها. ولا تزال في الذاكرة الطرية حقيقة أن «دروز الجنوب»، ومعظمهم «جنبلاطيون» ذوو ميول إسرائيلية، أقدموا مرارا على منع حتى سيارات الإسعاف التابعة لـ«حزب الله» من المرور في قراهم لنقل الجرحى! وفي مرحلة سابقة أقدموا حتى على مصادرة راجمة صواريخ للمقاومة! وهؤلاء سيكونون طليعة مقاتلة في الجيش الإسرائيلي ورديفاً مسلحاً له لو حصل أي غزو، كما فعلوا فعلاً خلال غزو العام 1982، وكما فعلوا في حرب تموز 2006 نفسها، حين تحول المئات منهم إلى دلّالين ومخبرين ينشرون الشرائح الإلكترونية في مناطق مختلفة لكي يتعرف عليها الطيران الإسرائيلي ويقصفها باعتبارها "مواقع لحزب الله"(قسم كبير منها كان معامل ألبان، ومحطات وقود، و مدارس، ومستوصفات، وبرادات زراعية، وحتى ورشات لصناعة صناديق بلاستيكية لتعبئة الفواكه ...إلخ!).
خلاصة الأمر: حصول أي حرب مفتوحة يعني تحولها في الآن نفسه إلى حرب داخلية، طائفية وسياسية. وهذا وحده كفيل بإلحاق الهزيمة بجيوش جرارة، وليس بمقاومة. هذا إذا وضعنا جانباً أن أي حرب من هذا النوع ستدخل فيها الولايات المتحدة وحلفاؤها مباشرة، على الأقل من خلال القصف الجوي. ولم يكن إحضار عشرات القطع البحرية إلى السواحل اللبنانية والفلسطينية منذ بداية «حرب غزة» إلا استعداداً لتطور محتمل من هذا النوع.
ويكفي للدلالة على تعقيد الوضع الداخلي وخطورته، أن النائب «غسان عطا الله» (نائب رئيس «التيار الوطني الحر»، المفترض أنه حليف حزب الله) لم يتردد قبل يومين في وصف مقاتلي «حزب الله» الذين يتصدون للاعتداءات الإسرائيلية بـ «الإرهابيين»، ودعوة القضاء اللبناني لملاحقتهم. و وصل الأمر بهذا الحمار إلى حد استخدام بقايا صاروخ دفاع جوي أطلقه المقاومون من منطقة «سد بسري» شمال شرق صيدا ضد طائرات إسرائيلية كذريعة لذلك. فهذا البغل، الذي لا يميز بين بوري الصوبيا و صاروخ دفاع جوي، اعتقد أن المقاومين يستخدمون القرى المسيحية في هجماتهم ضد المواقع الإسرائيلية، لمجرد أن محرك إقلاع الصاروخ سقط في منطقة مسيحية بعد إطلاقه! وإذا كان موقف «الحليف» هكذا، عليك أن تتخيل، حتى لو لم تكن تتابع مزابل الإعلام اللبناني (ومعظمها لا يختلف عن الإعلام الإسرائيلي في التحريض) كيف هو موقف الخصوم الذين تديرهم السفارات الغربية والعربية.
تحب «نصر الله» أم تكرهه، لأي سبب كان، سياسياً أو طائفياً أو شخصياً، عليك الاعتراف بأنه أعظم عقل استراتيجي عرفه العالم العربي في تاريخه الحديث. ولا يوازي عظمة قراره الاستراتيجي في تجنب الدخول في حرب مفتوحة مؤخراً، إلا عظمة قراره الاستراتيجي بالتدخل في سوريا ربيع العام 2013، بعد أن كانت الانتفاضة الشعبية السورية قد انتهت منذ أشهر وتحولت إلى «ثورة وهابية إسرائيلية أطلسية» ودخل عشرات الألوف من الإرهابيين إلى سوريا(من 83 بلداً)، بعضهم جرى شحنهم بطائرات قطرية وأميركية وتركية من ليبيا ودول آسيا الوسطى، وحتى الباكستان نفسها(كان الباكستانيون،على قلتهم، ينتشرون في قرى ريف حمص: «تلبيسة» وجوارها منذ شتاء العام 2012!) فلو لم يتدخل في سوريا، لكانت دمشق الآن تحت سلطة «جبهة النصرة» و«داعش» وأخواتهما.
مشكلتنا في الحياة أنها لا تقدم لنا فرصة المفاضلة الثنائية بين الخير والشر أو بين الأبيض والأسود، وإلا لكان الاختيار أكثر سهولة أو أقل صعوبة . المشكلة هي أن الحياة لا تطرح علينا إلا إمكانية واحدة: أن نختار بين السيء والأكثر سوءا، وبين الأسود والأقل سواداً ، أو درجات لونية أخرى منه تنتمي لمروحة واسعة من اللون الرمادي. ويقدر ما تكون ذكياً، دون التفريط بالشرط الأخلاقي، يكون اختيارك أكثر نجاحاً وبأقل الخسائر الممكنة!