قراءة تقويمية للكتاب الأبيض لوزارة التربية بقلم :مصدق الجليدي

Photo

يتكون الكتاب الأبيض الذي أصدرته وزارة التربية في ماي 2016، من خمسة أقسام تقع مع كلمة وزير التربية في 168 صفحة من الحجم المتوسط:

1. سياقات الإصلاح ومرجعياته

2. التحديات والرهانات

3. التوجهات الاستراتيجية للإصلاح

4. برامج الإصلاح ومشاريعه

5. الكلفة المالية التقديرية لإصلاح المنظومة التربوية

لن أتولى العرض الكامل لمحتوى هذا الكتاب فهذا يكون في سياق آخر غير هذا السياق، ولكني سأتوقف في ما يلي عند أهم ما لفت نظري فيه من موقع المتابع لمسار الإصلاح التربوي بعد الثورة منذ بداياته ومن موقع المشارك فيه من مواقع مختلفة آخرها الائتلاف المدني لإصلاح المنظومة التربوية.

سأتتبع تيسيرا لمهمتي نفس التدرج الذي اتبعه كتاب الوزارة الذي يعد إلى حد الآن الوثيقة الخامسة الذي أصدرتها في مجال الإصلاح منذ توليها من قبل الأستاذ ناجي جلول (وثيقة منهجية الإصلاح- مخرجات الحوار الوطني- والتقرير العام لندوة 16-17- 18 نوفمبر- المخطط الاستراتيجي القطاعي التربوي (2016-2020)- الكتاب الأبيض: مشروع إصلاح المنظومة التربوية في تونس).

ولكن قبل الدخول في تفاصيل القراءة والنقد والتقويم أقدم هذا الانطباع العام عن الكتاب:

إذا ما نظرنا إلى هذا العمل باعتباره استصلاحا (أي إصلاح جزئي وغير جذري) للنظام التربوي القائم (وهو تعبير ورد في الوثيقة المنهجية لوزارة التربية في أفريل 2015) بالعودة إلى إصلاح 2002، كما أعلن عن ذلك هذا الكتاب الأبيض بكل وضوح، نظرا لوجود عدد لا يستهان به من المشاركين في إصلاح 2002 ضمن قيادة الإصلاح الحالي، فإنه ليس بالوسع إنكار المجهود الواضح الذي بذل في إعداد هذه الوثيقة التي تحتوي على عدة أفكار مهمة وإيجابية، مثل تغليب التقييم التكويني على التقييم الجزائي ومثل التركيز على البيداغوجيا الفارقية والعزم على تغيير الخارطة المدرسية والقطع مع نظام الفصل المزدوج والعمل على استعادة التلاميذ المنقطعين عن الدراسة ضمن خطة استدراكية- إدماجية…الخ.

أما إذا ما أردنا تقييمه انطلاقا من الطموح الكبير الذي غمر نفوسنا ونحن نندفع بكل حماس للإسهام في هذا الإصلاح الذي طال انتظارنا له، والذي أردناه إصلاحا عميقا وجذريا واستراتيجيا، فإنه يظل أقل بكثير من مستوى طموحنا هذا. وسنشرح بعد قليل دواعي هذا التقيييم الإجمالي لمشروع الإصلاح التربوي في مساره الرسمي كما تكرّس إلى حدّ الآن.

وقبل عرض ملاحظاتنا عليه، أشكر شخصيا وزير التربية، مهما كانت دوافعه إلى ما سأشكره عليه، سواء أفعل ذلك بدافع الأمانة العلمية والموضوعية أم بدافع حشد الدعم الرسمي والشعبي لمشروعه، أشكره في كل الأحوال، على حرصه على التنصيص على "الكتاب الأبيض لإعادة بناء المنظومة التربوية" الذي أعده الائتلاف المدني لإصلاح المنظومة التربوية، كما ورد في الكتاب الأبيض للوزارة، بصفته من الأدبيات التي تمت العودة إليها في صياغة هذا الكتاب إلى جانب وثيقة الاتحاد العام التونسي للشغل، وثيقة عهد للتربية والمواطنة.

وبالتأكيد كان لكتابنا الأبيض حضور وتأثير على نحو ما في الكتاب الأبيض للوزارة، سواء من حيث التأثير في بنية الكتاب وخاصة عند الانطلاق بمرحلة تشخيص راهن المنظومة التربوية وإبراز هناتها بأرقام وبيانات دقيقة أو شرح دواعي الإصلاح ومسوغاته، أو من حيث التأكيد على الخلفية الحداثية الأصيلة (استعمال عبارة "التحديث الأصيل") للإصلاح التربوي والتأكيد على ضرورة الاستفادة من التراث الثقافي العربي الإسلامي المستنير ومن الإرث الإصلاحي التربوي بما في ذلك الإصلاحات التي قام بها الشيخ الطاهر بن عاشور لصالح التعليم الزيتوني، والاعتزاز بالهوية العربية الإسلامية، الذي حتى وإن كان منصوصا عليه بوضوح في الدستور، إلا أنه تم تجاهله في بداية مسار الحوار الوطني وتم التعبير عن مرجعية "الهوية المتعددة التركيب والمشارب"، وهو ما تم حذفه لاحقا، وهذا أمر نستحسنه، للبقاء قريبا من روح دستور 27 جانفي 2014، رغم تسليمنا بما لتعدد المشارب الحضارية للشخصية التونسية من فائدة في إثراء هذه الشخصية. الاستفادة أيضا من "التجارب التربوية الناجحة والمتميزة في العالم" التي أوصينا بها في كتابنا الأبيض تمت استعادتها أيضا من طرف كتاب الوزارة الأبيض. الحوكمة الرشيدة أيضا كانت حاضرة ولكن على نحو مختلف عما أردناه.

آتي الآن إلى تفصيل القول في ملاحظاتنا على هذا الكتاب:

يؤكد مؤلفو الكتاب، بدءا من وزير التربية السيد ناجي جلول، ويعيدون التأكيد مرارا وتكرارا في مواضع مختلفة من هذا العمل، أن هذا المشروع هو ثمرة توافق عريض بل كامل تم خلال مسار "الحوار الوطني حول إصلاح المنظومة التربوية" بين كل الأطراف والجهات المهتمة بهذا الإصلاح، بما في ذلك فعاليات المجتمع المدني وخبراء التربية. بينما الحقيقة هو أن هذا التأكيد بقي مجرد أمنية لدى السيد الوزير لم تتحقق، وبقي مجرّد ادّعاء زائف لدى شركائه في قيادة الحوار حول الإصلاح التربوي. وكون هذه الأمنية لم تتحقق لدى السيد الوزير فلأنه اختار الاعتبارات السياسوية على الاعتبارات العلمية والتشاركية. وكون تأكيد حصول الإجماع "منقطع النظير" حول هذا المشروع يتكرر في مواضع كثيرة من الكتاب الأبيض، فهذا مردّه عدم حصول قناعة حقيقية بحصول هذا الإجماع.

أمرّ الآن إلى المضامين:

أولا: مرجعيات الإصلاح التربوي :

1- الدستور التونسي والمعاهدات الدولية والإقليمية.

2- أدبيات الإصلاح وفي طليعتها القانون التوجيهي للتربية والتعليم 2002، ثم مختلف تقارير الوزارة وعدد من التقارير الدولية ومشاريع إصلاحية على غرار وثيقة الاتحاد العام التونسي للشغل حول إصلاح المنظومة التربوية، سبتمبر 2015، ووثيقة "عهد التربية والمواطنة " الصادرة عن شبكة "عهد " للثقافة المدنية، و"الكتاب الأبيض لإعادة بناء المنظومة التربوية" الصادر عن الائتلاف المدني لإصلاح المنظومة التربوية، جويلية 2015 وباقي الوثائق المنبثقة عن الحوار الوطني حول إصلاح المنظومة التربوية وتقارير الجلسات المشتركة مع أعضاء مجلس النواب…الخ.

بينما نجد أن المرجعيات التي اعتمدها الكتاب الأبيض للائتلاف هي التالية:

1. الدستور التونسي،

2. وقيم الثورة، الحرية والكرامة والعدالة والتشاركية.

3. القيم الحداثية الأصيلة،

4. الإرث الإصلاحي التربوي الوطني، منذ إصلاحات التعليم الزيتوني إلى إصلاح 1958، مع ما قد تثبت وجاهته وفائدته من الإصلاحات الموالية له.

5. رصيد التجارب التربوية الناجحة والمتميزة عالميا.

أما أدبيات الإصلاح التي جاءت بعد الثورة بإشراف وزارة التربية، فهي حاضرة ضرورة في كتاب الائتلاف لأن عددا من أعضائه قد شارك في إنتاجها على غرار الدكتور محمد بن فاطمة فترة وزارة الأستاذ عبد اللطيف والدكتور رضا ساسي في نفس تلك الفترة وفي فترة وزارة سالم لبيض، والدكتور مصدق الجليدي في فترة وزارة عبد اللطيف عبيد ووزارة فتحي الجراي، وقد تمت الإحالة إلى بعضها على غرار مخرجات الاستشارة الوطنية حول الإصلاح التربوي التي تمت في عهد عبد اللطيف عبيد.

وتجدر الإشارة أن مختلف الجهود الإصلاحية- مهما علت قيمتها أو انخفضت- التي تمت في عهد الوزارات السابقة على وزارة السيد ناجي جلول قد تم تجاهلها طيلة مسار الحوار الوطني حول الإصلاح التربوي إلى ما بعد انعقاد الندوة الوطنية أيام 16-17 و18 نوفمبر 2015، وقد كنا نذكّر بها طوال الوقت في الائتلاف وننتقد تجاهلها الغريب الذي يوحي بالاستهتار بمبدإ استمرارية الدولة –خاصة بعد الثورة- والمراكمة على جهود الخبرة الوطنية، وكانت آخر مناسبة كبرى نوهنا فيها بذلك هي في جلستنا التاريخية يوم 20 جانفي 2016 بمجلس نواب الشعب مع أعضاء لجنة الثقافة والشباب والتربية والتكوين والبحث العلمي، وكان ذلك في سياق مداخلتي شخصيا في تلك الجلسة.

الآن، وبعد انخفاض حدّة الرغبة في البروز الشخصي، على ما يبدو، تحت وطأة النقد المتتالي وملاحظات السيد رئيس الحكومة التي وجهها لوزير التربية منذ أسابيع قليلة، وربما أيضا بفعل عودة قدر من الوعي والشعور بالمسؤولية الوطنية، تم الإقرار بأهمية العودة إلى تلك الأدبيات وتمت الاستفادة منها ولكن جزئيا فقط. فقد كان المشروع الإصلاحي الذي تشكل في فترة وزارة الأستاذ عبد اللطيف عبيد على وجه الخصوص أعلى سقفا بكثير وأكثر طموحا وأكثر عمقا استراتيجيا في بعض الجوانب، وقد كان لنا شرف إدراج مطلبين هامين فيه وهما: المجلس الأعلى للتربية وكلية علوم التربية (سلمت شخصيا عريضتين في الغرض للسيد الوزير وقد قبل محتواهما وعمل على إدراجه في مشروع الإصلاح)، فضلا عن تعميم المرحلة ما قبل المدرسية وغيرها من الأفكار الإصلاحية الهامة.

الاستفادة من التجارب التربوية الناجحة والمتميزة في العالم والتي ذكرناها في كتاب الائتلاف، تم اعتمادها أيضا في كتاب الوزارة الأبيض رغم أنه لم يقع التنصيص عليها في عنصر المرجعيات.

2- التحديات والرهانات:

رغم أن هذا العنصر يشتمل على مفهومين: التحدي والرهان. إلا أنه تم الحديث فقط عن التحديات ولم تذكر الرهانات بتاتا. وهو ما يدل على الخلط بين المفهومين، حيث وقع التعامل مع مفهوم التحدي كما لو أنه يشتمل أيضا على معنى الرهان، بينما الفرق بينهما واضح: فالتحدي هو غاية أو هدف بعيد أو من مستوى عال نريد الوصول إليه ورفعه (رفع التحدي) بينما نراهن في سبيل تحقيق ذلك على جملة من إمكانات الفعل والتأثير، مثل الإرادة والتصميم والخبرات الوطنية…الخ.

لنترك هذه المسألة الاصطلاحية ولننظر في المضمون، مضمون التحديات التي يطرحه الكتاب الأبيض لوزارة التربية. إنها أربع تحديات: الإنصاف وتكافؤ الفرص- نوعية التعليم وجودة المكتسبات- الاندماج في الاقتصاد والمجتمع- الحوكمة.

هذه التحديات ليست كلها حقا من جنس التحديات. فإذا كان "الاندماج في الاقتصاد والمجتمع" هو تحد حقيقي مثله مثل "الإنصاف وتكافؤ الفرص" رغم أن هذا التحدي الأخير يمكن أن يوضع في خانة المبادئ العامة للنظام التربوي، إلا أن الجودة والحوكمة ليسا تحديين بالمعنى الدقيق للكلمة، لكونها من شروط رفع باقي التحديات. بل هما مدخلان في الإصلاح (برايغمان) ومنهما نشتق المعايير التي سنطبقها عليه إذا ما اخترنا أحدهما مدخلا لهذا الإصلاح. وبالتالي نحن هنا إزاء خلط ولغط في مستوى المنزلة الابستمولوجية لمفاهيم ومفردات الإصلاح التربوي من منظور هندسة الإصلاحات التربوية. وهو ما يدل على عدم بلوغ المشاركين في صياغة الكتاب الأبيض للوزارة مستوى الخبرة الحقيقية في وضع منهج الإصلاح التربوي وهندسته، خلافا لما يُدّعى. وبهذه المناسبة، تم أيضا في ذات هذا السياق استخدام مصطلح "الغائيات" (ص. 58) وهو استخدام مغلوط، والصحيح هو الغايات، لأن الغائيات هي فلسفات الغايات أو التلييولوجيات téléologies.

3- المبادئ العامة للإصلاح ورسالة المدرسة:

في هذا العنصر ذكرت ثمانية مبادئ تدور حول معاني العمومية والمجانية والإلزامية والجودة والكرامة والتنمية المستدامة والحيادية… ولكن ما تم تجاهله هنا هو أمران: القيم وكرامة المربي. فقد جعلت التربية في خدمة "التنمية المستدامة" وهذا توجه اقتصادوي للمنظومة التربوية ونفعي مادي بحت لا يولي أهمية للثقافة والفهم والقيم. وقد تم لاحقا حصر هذه القيم في مجال المواطنة وحقوق الإنسان، وتم تجاهل القيم الأخلاقية مثل الانضباط وحسن السلوك وآداب التعامل مع الغير والعمل واحترام المعلمين وتوقير العلماء، مثلما هو مكرس في المدرسة اليابانية على سبيل المثال. كما تم التنصيص على كرامة المتعلم وتم تجاهل كرامة المربي. قد يتعلل في ذلك بأن النصوص ذات القيمة الأدبية والمعنوية والقانونية تنحاز لحماية حقوق الضعاف، ولكنا ما نراه اليوم للأسف هو استضعاف فاضح للمربي وتعد صارخ على كرامته بالعنف اللفظي والمادي من قبل عديد الأطراف داخل المؤسسة التربوية وفي محيطها.

نفس الملاحظة الخاصة بالتربية على القيم نوجهها إلى عنصر رسالة المدرسة، فقد تم التنصيص على أن المدرسة "تربي الناشئة على مبادئ حقوق الإنسان وقيم المواطنة" بينما لا تستغرق تلك المبادئ وتلك القيم كل القيم المطلوبة في مجتمعنا العربي الإسلامي الأصيل. فهنالك قيم أعلى وأعمق من قيم المواطنة ومن حقوق الإنسان منصوص عليها في منظومتنا القيمية الأصيلة مثل برّ الوالدين وعدم عقوقهما والإلقاء بهما في مأوى العجّز عند الكبر، ومثل الحفاظ على الروابط الأسرية لا ضمن دائرة القانون فحسب، بل ضمن حضن المودة ورابط الوفاء وخلق العفة…الخ. كما غاب التنصيص في عنصر "رسالة المدرسة" على مشاعر الانتماء الوطني والقومي والإسلامي، واكتفي بدلا من ذلك بالمهمة التالية: "ترسي[المدرسة] في وجدان المتعلم الشعور بالانتماء إليها والاعتزاز بها". وهذا أمر نكاد نقول إنه مضحك، لا لأننا ضد هذه الغاية وهذه الوظيفة التربوية، بل لهذا الإفراط الذي نلمسه في تضييق دائرة الانتماء إلى حد الانتفاء والتفريط في المهام الوطنية والقومية والحضارية وحتى الإنسانية الشاملة للمدرسة. فهي مدرسة تشبه محضنة دجاج أو قفص أرانب حيث تضيق دائرة الانتماء إلى حدود الفضاء الحيوي اللصيق مباشرة بالكائن.

ولكن لحسن الحظ أن تم تدارك هذا الأمر لاحقا بقدر معين عند الكلام عن ملامح المتخرج (ص. 109) حيث "من واجب المدرسة العمل على ترسيخ الميزة الأصيلة في خريجيها ليكونوا معتزين بانتمائهم إلى وطنهم الحاضن وحضارتهم العربية الإسلامية دون انغلاق…".

وهذا ما يدل على أن الكتاب الأبيض للوزارة لم يكتب بنفس الروح ومن قبل نفس الفريق المتجانس، أو أنه اعتمد "خطابا مزدوجا" أو أنه يعكس صراعات واقعة ضمن لجنة التأليف، وربما وزعت الأقسام على أعضائها من دون تنسيق كاف ومن دون تعميق الحوار في ما بينها. ففيها القومي العروبي وفيها العلماني الليبيرالي وفيها اليساري الماركسي. ولا يعقل أن "يجد كل ضالته" في هذا الكتاب، بل يجب الاحتكام فيه إلى أول مرجعية أعلن عنها وهي الدستور. كما لا يفوتنا لفت النظر إلى غياب أي إشارة إلى القضية الفلسطينية وإلى كل القضايا العادلة في العالم رغم التنصيص عليها في ديباجة الدستور التونسي، وهذا يفهم جيدا في ضوء القسم الأخير من الكتاب والمتعلق بالتمويل…تمويل الإصلاح التربوي..

4- الأهداف الاستراتيجية:

وهي تسعة أهداف مثل تحقيق مبدإ الإنصاف وتكافؤ الفرص، ومراجعة الخارطة المدرسية والحوكمة…الخ. وهنا نسجل وجود ضعف في ضبط هندسة الكتاب، حيث أن هنالك خلطا بين الهدف (الاستراتيجي) والوسيلة المحققة لذلك الهدف والدعائم الساندة له. فمراجعة الخارطة المدرسية ليست هدفا استراتيجيا كما نصت على ذلك الوثيقة ولكنها دعامة من دعامات الحوكمة الرشيدة، حيث بأنه بهذه المراجعة سنتجنب هدر المال العام وهدر الجهود والأوقات ونحسّن مردود المؤسسة التربوية. نفس الشيء يمكن أن يقال عن إعادة هيكلة التعليم الإعدادي والثانوي، فو ليس غاية استراتيجية، بل به نحقق الحوكمة الرشيدة واللامركزية والتشاركية ..الخ. كما أن الحوكمة ليست هدفا استراتيجيا بل منظومة معايير نطبقها لنحقق أهدافا أخرى مثل تجنب الهدر المدرسي بأنواعه والرفع من مردودية المنظومة التربوية. فهي مدخل عام للإصلاح وليست مجرد هدف له. فهي يبدأ بها وليست مما يوصل إليه، لأنها ليست غاية في ذاتها بل بتطبيقها نتمكن من تحقيق عدة أهداف استراتيجية، فالحوكمة ضد الفساد، وفي مناخ فاسد وبإدارة فاسدة ومنظومة عمل فاسدة لن نتمكن من تحقيق أي هدف استراتيجي ولا حتى مرحلي.

إضافة لهذا، ما لم يقله هذا الكتاب الأبيض هو لماذا اختار هذه "الأهداف الاستراتيجية" دون غيرها؟ ومن أين أتى بها؟ وهذه النقيصة متأتية لعدم عمله بمنهجية هندسة إصلاح النظم التربوية. كما أنه لم يوضّح كيفية بنائه للخطة الإجرائية أو خارطة الطريق الزمانية لتنفيذ هذه الإصلاحات، حيث لم يبرز التمفصل المنطقي والعملي الإجرائي بين هذه الأهداف بشكل واضح، لا في صلب كل استحقاق/هدف على حدة، وإنما بالنظر إلى "منظومة الإصلاحات" ككل.

إضافة إلى ما سبق وبالانتهاء من قراءة الكتاب نلاحظ غياب مسائل ذات قيمة استراتيجية، وهذه أهمها:

1- غياب التنصيص بوضوح على مدخل (براديغم) للإصلاح تستمد منه معاييره ومؤشراته الدقيقة، مع استدعاء غير منهجي لمفهومي الجودة والحوكمة الرشيدة.

2- غياب إحداثات مؤسسية استراتيجية: المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي- كلية علوم التربية- المعهد الوطني لتقييم المنظومة التربوية (التنصيص فقط على إيجاد منظومة تقييم للمنظومة التربوية مع آليات ليست بمثل وزن المعهد الوطني المقترح من قبل الكتاب الأبيض للائتلاف) – الميثاق الوطني للتربية والتكوين الذي سيكون ضمانة أدبية لحصول توافق وطني حول مضامين الإصلاح التربوي وتوجهاته الاستراتيجية.

3- ملف التعريب أيضا لم يدفع به إلى المستوى المطلوب حقا واكتفي بالتنصيص على دعم تدريس اللغة العربية، بينما يصرح الوزير بتدريس الفرنسية من السنة الثانية والانجليزية من السنة الثالثة في استجابة واضحة للبند 91 من وثيقة الشراكة التعاون والشراكة مع الاتحاد الأوروبي (2013-2017)، والذي ينص على ضرورة "دعم تعلم اللغات الأجنبية" والسكوت –بطبيعة الحال- عما نص عليه الدستور لاحقا من دعم تدريس اللغة العربية، رغم أن البنك الدولي في وقت سابق قبل الثورة قد نصح بالتعريب تجنبا للهدر المدرسي.

آخر مسألة تعرض لها الكتاب الأبيض للوزارة هي "الكلفة المالية التقديرية لإصلاح المنظومة التربوية". وما نلاحظه هنا هو أن أرفع مقدار مالي في هذه الكلفة قد خصص لـ"توظيف تكنولوجيات المعلومات والاتصال": 950 مليار من المليمات. وهذا يتطابق مع توصيات الاتحاد الأوروبي في اتفاقية الشراكة ومخطط العمل للفترة 2013-2017، حيث نص البند 88 من هذه الشراكة على دعم وتعميم استخدام تكنولوجيات المعلومات في المنظومة التربوية. "دعم وتعميم استخدام فقط" وليس امتلاك ناصية هذه التكنولوجيا والإبداع فيها، بحيث تغدو تونس والمدرسة التونسية سوقا – وإن صغيرة نسبيا- لترويج قدر من البضاعة الرقمية الأوروبية…وهنا نستحضر مفهوم الحوكمة ومعاييرها المختلفة…

وفي الختام، إذا ما أردنا أن نوجه نصيحة إلى لجنة تأليف الكتاب الأبيض، إذا ما سلمنا معها جدلا باختياراتها المنهجية، فإننا سنقول لها: أعيدي صياغة الكتاب بحيث تكون مضامينه منسجمة داخليا في ما بينها، مع مزيد من تحري الضبط المفهومي والاصطلاحي، وهو ما سيؤدي ضرورة إلى إعادة رسم هندسة أو خطة تحرير بعض الأقسام الرئيسة في الكتاب.

أما إذا ما أردنا أن نوجه لها نصيحة أعمق، فإننا نقول لها: استفيدي أكثر من الكتاب الأبيض للائتلاف، سيما في مستوى البقاء قريبا من روح الدستور وفي مستوى اعتماد منهجية هندسة الإصلاحات التربوية.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات