مرجعيات مشروع المنهاج التربوي العام: قراءة نقدية

Photo

تحمل الوثيقة التي بين أيدينا عنوانا كتب بالفرنسية وبالبنط الغليظ هو "المنهاج العام" Curriculum Général Le، وكتب تحته بخط أقل سمكا "مشروع" Projet، وتحت هذه الصفة كتبت صفة أخرى بنفس الخط "صيغة أولى" Version1. وتاريخ إصدارها هو سبتمبر 2017.

لهذا السبب اعتبرنا هذه الوثيقة مشروعا للمنهاج التربوي العام، بل لعله الصيغة الأولى لهذا المشروع. ولذا فالباب مشرّع على مصراعيه لإبداء الرأي فيه.

يفيد الاطلاع على هذه الوثيقة وجود نوعين من المرجعيات اعتمدت في صياغتها:


- مرجعيات عامة، فلسفية تربوية، ودستورية وقانونية (ضمنية، مثل مشروع القانون المتعلق بمبادئ التربية والتعليم/ نوفمبر، 2016) وحقوقية كونية، إلى جانب بعض الجوانب في القانون التوجيهي (2002).

- مرجعيات علمية من مجال علوم التربية مثل بيداغوجيا الكفايات، وهندسة المناهج التربوية، والعلوم العرفانية، وتعلميات اللغة والمواد الاجتماعية وعلم اجتماع التربية وعلم التقييم التربوي وغيرها من العلوم التربوية.

وما ستتناوله في هذه الورقة بالدرس والنقد هو هذين الصنفين من المرجعيات.

1- المرجعيات العامة:

يمكن استخراج هذا الصنف من المرجعيات من مقدمة مشروع "المنهاج التربوي العام" ومن الأبواب الخمسة الأولى الخاصة بـ"غايات النظام التربوي" و"مبادئه" وبـ"مهام المدرسة" و"الحياة المدرسية" و"ملامح الخريجين".

تتمثل هذه المرجعيات العامة في ما يلي:

أ- تاريخ تونس و"آبائها المؤسسين" بصفة عامة وتاريخ المدرسة التونسية بصفة أخص:

ويقصد به خاصة تاريخها الحديث أي انطلاقا من إصلاح 1958 مرورا بإصلاح 1991 ووصولا إلى إصلاح 2002. ويتجلى ذلك في إحالات ضمنية إلى العديد من المبادئ العامة الواردة في تلك الإصلاحات، مثل "تجذّر المتعلم في هويته وانفتاحه على القيم الكونية" (ص.3) (انظر مثلا الفصل الأول من المبادئ الأساسية الواردة في قانون إصلاح جويلية 1991). ونأخذ مثالا عن العودة إلى إصلاح 2002 هو الاستمرار في الدعوة إلى:

- تمكين المتعلمين من إتقان اللغة العربية، بصفتها اللغة الوطنيّة،

-وتمكين المتعلمين من حذق لغتين أجنبيتين علي الأقل (الغايتان 10 و11 للنظام التربوي في مشروع المنهاج التربوي العام، نقلا عن الفصل التاسع من القانون التوجيهي 2002).

ب- فلسفة الحداثة والقيم الحديثة:

الإقرار بأن من وظائف المدرسة الأساسية هو الإسهام في "بناء الإنسان الحديث" (ص.3) وفي ظهور المجتمع الديمقراطي (ص.6).

ج- تأوّل فصول من دستور 2014:

يذكر واضعو المنهاج أنهم قد عادوا إلى الفصول 39 و42 و43 و47 و48.

د- الأدبيات الفلسفية التربوية المعاصرة:

من ذلك مثلا استعارة عبارة "منح معنى للمدرسة" أو "للتعلمات" من بعض الكتابات التربوية المعاصرة مثل أعمال ميشال دوفلاي (1993) وفيليب برونو (1997) حول بناء المعنى من خلال التعلم والمعرفة" 1.

ﻫ- مبادئ الحوكمة والجودة والإنصاف الموجودة في عدد من المعاهدات الدولية والتي استحضرها الكتاب الأبيض:

مشروع إصلاح المنظومة التربوية الصادر عن وزارة التربية (ماي، 2016).

و- مرجعية ضمنية تتمثل في مشروع القانون المتعلق بمبادئ التربية والتعليم الذي أعدته الوزارة في شهر نوفمبر 2016، والذي يفتقد إلى اليوم إلى المصادقة الرسمية من الحكومة ومن البرلمان.

بخصوص الضرب الأول من المرجعيات، يمكن تثمين الحفاظ على بعض المكتسبات الواردة في القانون التوجيهي 2002، مثل السن الدنيا للتمدرس ومواصلة التمسك بالتربية على حقوق الإنسان وعلى المواطنة، ولكن في نفس الوقت نسجّل هناّت ونقائص. من ذلك:


• إدخال الغموض على الهوية الوطنية للمتخرجين من المدرسة التونسية، هل هي هوية عربية إسلامية، كما نص على ذلك بوضوح الفصل 39 من الدستور، أم هي هوية هلامية متعددة الأبعاد كما جاء في الغاية الثالثة من الباب الأول الخاص بغايات المنظومة التربوية (ص. 7) ومتعددة المكونات كما جاء في الملمح السابع من الباب الخامس الخاص بملامح الخرجين من وثيقة المنهاج العام (ص. 11)؟

إن نقدنا لهذا التوجه في تحديد طبيعة الهوية التي يجب على المدرسة تنشئة المتعلمين عليها، يجد مشروعيته في ثلاث أصول:

- أولا: المرجعية الدستورية التي حسمت مسألة الهوية بشكل واضح.

- ثانيا: الجيل الثالث من حقوق الإنسان الذي ينص على الحقوق الثقافية للشعوب. فلا يمكن لأي جماعة بشرية (قبيلة أو شعب أو أمة) أو أن تفرض إلحاقا ثقافيا قسريا على جماعة بشرية أخرى، لمجرد كونها قد استغلت لحظة من لحظات ضعفها الحضاري والمدني لتحتل أرضها وتخضع نظامها السياسي للنظام المحتل.

- ولذا يخطئ جدا مؤرخ بارز من الأستاذ فنطر عندما يتحدث في بعض أعماله التأريخية عما سماه "أجدادنا الرومان". في المقابل، لا ضير من الحديث عن البربر أو الأمازيغ أي المواطنون الأحرار بما هم السكان الأصليون لهذه الأرض. ولكن الثقافة لا تتكون فقط من العرق، فهؤلاء البربر قد تحولوا في نهاية المطاف أعضاء كاملي الحقوق في الحضارة والثقافة العربية الإسلامية، خصوصا في بلادنا التونسية.

- ثالثا: منطق التقدم الحضاري والتاريخي:
من المعلوم أن الإسلام قد نقل السكان الأصليين لتونس من طور حضاري إلى طور حضاري أرقى. يشهد بذلك مختلف مظاهر العمران والعمارة والثقافة والعلوم والآداب والفنون التي انضافت إلى إفريقية على يد المسلمين، الذين استوعبوا في ذات الوقت ووظفوا ودمجوا في عمارتهم وأساليب حياتهم أحسن ما ترك الغزاة الرومان والبيزنطيون في هذه البلاد، فضلا عما أضافوا إليها من صلب الحضارة والمعرفة الإسلامية ذاتها.

فهل يمكن مثلا لمواطني أوروبا الحديثة أن يتباهوا بعصور الهمجية والشعوذة والخرافة ووصاية الكنيسة على الفكر الحر التي سادت قرون الظلام القرون الوسطى وأن يعودوا إلى خرافات أرسطو وأفلوطين الميتافيزيقية بعد أن قطعت فلسفة الأنوار والحداثة مع هذا الفكر العقيم من الناحية العلمية، ومع نظم الحكم التيوقراطية التسلطية من الناحية السياسية، ومع وصاية الكنيسة من الناحية الدينية بدعوى الاعتزاز بالآباء اليونانيين الوثنيين أو المسيحيين المعادين للعلم؟

اليوم تنتسب مدرسة الجمهورية الفرنسية على سبيل المثال إلى فلسفة الأنوار وليس إلى أكاديمية أفلاطون أو ليسي أرسطو أو الكنيسة القروسطية. ونحن اليوم إذ نتبنى القيم الحديثة، فليس من منطلق الخضوع إلى الغزو الثقافي الأجنبي، وإنما انطلاقا من قناعاتنا بضرورة الانتماء إلى العصر وإلى الحاضر في ما ينطوي عليه من قيم كونية وأساليب عيش عصرية. غير أن الحداثة ليست منجزا حضاريا يُستورد كبضاعة من الخارج وإنما هي ذهنية وابستيمية وطريقة حضور في العالم يجب أن نبنيه بشكل ذاتي أصيل. أي بطريقة حداثية أصيلة. وهذه واحدة من أعظم الواجبات على المدرسة الوطنية المنشودة، أي تخريج العقول التي ستسهم في بناء هذه الحداثة الأصيلة وتنزيلها في مختلف أوجه ومناشط الحياة العامة والخاصة.

ومثلما ندعو إلى الحذر المعرفي من أخذ الحداثة في صيغتها الغربية على علاتها، وهي الصيغة التي تلقى اليوم نقدا كبيرا من لدن فلاسفة ما بعد الحداثةّ، فإننا ندعو كذلك إلى التسلح بالحذر في التعامل مع التراث العربي الإسلامي الذي هو أبعد ما يكون عن التجانس. فالتراث ليس منظومة ثقافية واحدة، بل يحتوي على تعددية وتنوع كبيرين صلب الرؤية التوحيدية نفسها. وفيه خلائط كثيرة غريبة عن روح الثقافة الأصيلة من غنوصية ومانوية وتجسيدية وحلولية وإسرائيليات وغيرها…

ولذا فمسألة الهوية الوطنية الأصيلة يجب أن تحدد بعبارات تتوخى الدقة قدر المتاح. يمكننا القول من جهة تعيين الرافد الإسلامي التاريخي لهذه الهوية أن نعينه في التقليد التوحيدي الأشعري الذي تبناه ابن خلدون وكان مساعدا له على القطع مع علم الكلام القديم وتأسيس علم العمران البشري ونظرية الاستخلاف على أنقاضه، وفي التوجه الفقهي المقاصدي المنبني على الفطرة وعلى طبائع العمران البشري كما انتهى إلى ذلك شيخ الزيتونة محمد الطاهر بن عاشور تأليفا منه لكل من عمل الشاطبي وابن خلدون المتعاصرين تاريخيا وابستيميا. مضيفين إليهما التصوف الشرعي كما حدده ابن خلدون في كتاب شفاء السائل في تهذيب المسائل والذي يجد في طريقة الجنيد السالك إحدى تطبيقاته. وأخيرا التوجه العقلاني لدى فيلسوف الأندلس والمغرب الإسلامي (مراكش) ابن رشد أو شيخ العلوم العقلية في تلمسان وفاس وتونس أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الآبلي الذي تتلمذ على يديه ابن خلدون في تونس، والتوجه العلمي التجريبي كما نجده لدى الطبيب والصيدلاني ابن الجزار القيرواني. أي علم العمران الخلدوني الذي يفتح على العلوم الإنسانية الحديثة والتوجه المقاصدي للنص المتطابق مع روح منظومة حقوق الإنسان الكونية، والتجربة الروحية المخلّصة من شوائب الدروشة والشعوذة والدجل، والتفكير الفلسفي العقلاني والعلم الاستقرائي التجريبي. بعد ذلك يأتي الفكر الإصلاحي الوطني الحديث على يد رواد من أمثال خير الدين والثعالبي وسالم بوحاجب والطاهر الحداد وصولا إلى الفاضل بن عاشور، ثم مكاسب دولة الاستقلال.

* التحفظ البارز الثاني الذي نبديه إزاء التوجه العام لمشروع المنهاج التربوي العام يتعلق بذلك الغموض يشوب منزلة اللغة العربية في المنهاج. حيث لم يقع التنصيص بوضوح على استخدام هذه اللغة في تدريس العلوم إلى نهاية التعليم الثانوي، مثلما يتطلب ذلك تنزيل ما ورد في الفصل 39 من الدستور. وإنما أعيد تكرار ما جاء في القانون التوجيهي لسنة 2002 بخصوص هذه المسألة وفق ما ذكرناه آنفا.

لقد جاء في الفصل 39 من الدستور قوله أن الدولة تعمل على "ترسيخ اللغة العربية ودعمها وتعميم استخدامها". فكيف سيكون دعمها وكيف سيعمّ استخدامها إذا لم تدعم ويعمّم استخدامها قبل ذلك في المناهج الدراسية؟ وما هو معنى تعميم استخدامها انطلاقا من الوضع الحالي لاستخدامها في المدرسة؟ معناه أمران:


- التعميم العمودي: أي الصعود بها إلى ما لا يقل عن نهاية التعليم الثانوي.

- التعميم الأفقي: أي تعميمها على كامل المواد، عدا اللغات الأجنبية نفسها بطبيعة الحال.

وقد سبق لنا أن بسطنا في الكتاب الأبيض للائتلاف المسوغات الموضوعية لتبني مبدإ استخدم اللغة الوطنية في التدريس فلا نعود إليها هنا. وإنما نضيف بخصوص الخطة العملية لتعريب العلوم، أن لدينا في تونس مؤسستان يمكنهما المساعدة على ذلك، فضلا عن وحدات ومخابر البحث الجامعية، وهما المركز الوطني للغات والمعهد الوطني للترجمة.

ولن ينطلق عمل كل هذه المؤسسات من الصفر، فلدينا معاجم عملية معرّبة جاهزة من إنتاج المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ولدينا تجارب ومناهج في العلوم والرياضيات والتقنيات في بلدان عربية عدة مثل مصر وسوريا والعراق. استخدام اللغة العربية في المواد العلمية يتمّ من خلال تمشيين متتابعين وفي مرحلة ما متزامنين، وهما الترجمة والإضافة العلمية، أي إبداع المفاهيم والمصطلحات العلمية والفنية باللغة العربية للتعبير العلمي المنهجي عن الكشوفات والاختراعات والبناءات العلمية الوطنية.

وهذا يتطلب ثورة في التمشيات التعليمية-التعلمية في مجال العلوم والتكنولوجيا بما يسمح بالانبجاسات والتكوينات الإبداعية لدى المتعلمين والباحثين الشبان والمتمرسين. فمسألة اللغة ليست مسألة لسانية بحتة بل مسألة بيداغوجية وديدكتيكية كذلك. وقبل هذا كله يتعلق الأمر بالإرادة السياسية السيادية. وهو ما لا ينفصل عن قضية التنمية الوطنية. ولذا فنحن لا نحثّ على تفعيل الدستور في هذه المسألة الحساسة بطريقة محض عاطفية، بل بتفكير عقلاني منظومي شامل.

* التحفّظ البارز الثالث يتمثل في نقيصة ايتيقية وهي غياب قيمة الأخلاق بالكامل من هذا المنهاج. هذا المنهاج بلا أخلاق. لا وجود للأخلاق لا في مبادئه ولا في غاياته ولا في ملامح خريجيه. توجد طائفة كبيرة أخرى من القيم التي تعدّ مدنية، ولكن لا توجد قيمة الأخلاق من بينها. ولكأن الأخلاق تنتمي إلى طور قبل مدني ولا مكانة لها في منظومة القيم الحداثية.

وهو ما يضمر ضمنيا أن الأخلاق تحيل إلى معاني الطاعة والخضوع والانضباط وأنها كل هذه المعاني متعارضة مع الحرية والثقة بالنفس والعقلانية. ومن هنا نفهم لماذا جاءت المدرسة التونسية أسفل الترتيب العالمي في سلم انضباط التلاميذ واحترامهم لمعلميهم ولزملائهم وانضباطهم للتراتيب المدرسية ولقواعد السلوك القويم في المدرسة (الترتيب 73 بعد الفرنسيين مباشرةـ بحسب ما جاء في تقرير اختبارات بيزا PISA لسنة 2015).

ومن هنا نفهم لماذا سجّلت الحياة المدرسية السنة الفارطة 7000 حالة عنف بين التلاميذ ومعلميهم. هذا في الوقت الذي نجد فيه بلدا متقدما علميا وتكنولوجيا مثل اليابان يحتل المرتبة الأولى في أخلاق أبنائه المتعلمين.

وإذا ما أردنا التعبير عن جوهر تحفظاتنا في ما يخص المرجعيات العامة التي استند إليها مشروع المنهاج التربوي العام فإننا نعبر عنها من خلال الصورة الآتية: لا يدري المطّلع على نص المنهاج العام من أجل أي متعلم وضع. هل وضع من أجل متعلمي المدرسة التونسية أم من أجل متعلمي مدرسة الجمهورية الفرنسية أم أي مدرسة أخرى في العالم الغربي؟ ومما زاد الطين الثقيل بلّة هو ظهور الصيغة الأولى لهذا المنهاج باللغة الفرنسية.

والسبب في ذلك بكل بساطة هو صياغته تحت إشراف بيت خبرة فرنسي يضع من أولى أولوياته نشر اللغة الفرنسية في العالم. وهو المركز الدولي للدراسات البيداغوجية CIEP الذي هو جهاز رسمي تابع لوزارة التربية الفرنسية. والمتابع لهذا البرنامج بتونس هو السيدة ستيفاني أرميني Stéphanie Ermini، أما الجانب العلمي والفني فهو بإشراف خبيرين منتدبين من هذا المركز هما ميشال دوفلاي Michel Develay ومارغريت آلتي Marguerite Altet.

إنهاء لتقييمنا للمرجعيات العامة للمنهاج التربوي في صيغته الحالية، نقول هذا المنهاج يفتقد للروح الوطنية الأصيلة، ويغرق في بحر مفهوم ساذج عن الكونية والمواطن الكوسموبوليتي الذي تروّج له الشركات الرأسمالية العابرة للقارة، والتي همّها الأكبر هو تنميط الأذواق عولميا للتحكم في الأرزاق كوكبيا.

ما نقترحه لتجاوز إشكال الاختلاف في المرجعيات العامة للمنهاج وحتى للوثيقة التي من المفروض أن تتم المصادقة عليها قبله، أي مشروع قانون الإصلاح التربوي الذي سمي بمشروع القانون المتعلق بمبادئ التربية والتعليم، هو وضع ميثاق وطني للتربية والتكوين، يكون بمثابة دستور للمدرسة التونسية يصاغ بعبارات واضحة لا تحتمل تعددا في التأويل. وبذلك نسدّ الطريق أمام معاملة الدستور كمعاملة سروال عبد الرحمن. السروال هو دائما سروال عبد الرحمن لكن يختلف طوله بحسب إرادة المقص الذي يعمل فيه.

2. المرجعيات العلمية والبيداغوجية:

استفاد واضعو المنهاج التربوي العام من كم كبير من المرجعيات العلمية والبيداغوجية ، هذه أبرزها: المقاربة المنظومية- البيداغوجيات النشيطة- البنائية الكلاسيكية والبنائية الاجتماعية- علم نفس الشخصية- اللسانيات- هندسة المناهج-الاستيتيقا أو الجماليات-السيمنطيقا أو علوم الدلالة- النقد الابستمولوجي والمنهج العلمي- الديداكتيك- المقاربة بالكفايات- التعلمات المتعددة éduquer à…- التعليم الاستراتيجي- بيداغوجيا المشروع- بيداغوجيا الاستكشاف- التعلم التعاوني- نظرية الذكاءات المتعددة- علم النفس المعرفي- تقييم عمل التلميذ (التشخيصي- التكويني، الجزائي)- علم نفس الاجتماعي التربوي- صعوبات التعلم- علم النفس الفارقي وعلم النفس الإفرادي.

هذا الجمع الموظف بشكل مقبول لمختلف هذه المرجعيات العلمية أمر يحسب لهذا المنهاج. ويمثل نوعا من أنواع الاستجابة لمطلب منهاجي ملحّ، وهو تجاوز تجاور العلوم والاختصاصات والمجالات المنفتحة على الشأن التربوي إلى بناء شبكات ربط بين عدد هام من مفاهيمها على نحو يعبر منظوميا عن تركّب الظاهرة التربوية وتعقّد الوضعية التعليمية- التعلمية.

غير أن ما قد يثير الحيرة لدى المطبقين في الميدان، ابتداء من الممهدين للتطبيق أنفسهم، أي المكونون، وصولا إلى المدرسين، هو الاهتداء إلى الصيغ الإجرائية لتنزيل هذه البناءات الهندسية الديداكتيكية، التي هي في الحقيقة نماذج لتحليل الوضعية التربوية المركبة المنشودة، وليست صيغا بنائية إجرائية لها. أي كيف يتم المرور من الزمن الهندسي المنهاجي إلى الزمن النفسي التعليمي؟ وكيف يتحقق تجاوز تجاور المواد وانفصالها نحو اندماجها وانصهارها في وحدات دراسية مدمجة لعديد الكفايات والحقول المعرفية والاتجاهات القيمية؟ حيث بقي الكلام على هذه المسألة مغرقا في التنظير والتجريد ولم يتحول إلى بنى إجرائية منهاجية تعليمية-تعلمية.

لقد تفطن واضعو المنهاج العام إلى هذا المشكل، وحاولوا معالجته من خلال برمجة إعداد عدد من الملاحق الموضحة للمنهاج، وهي ملاحق خاصة بكفايات المعلمين وكفايات المتفقدين والمناهج الخاصة والكتب المدرسية والتقييم..ولكن هل يكفي هذا حقا لحل المشكل؟

هنا نستحضر قضية على غاية من الأهمية مثارة بشكل لافت في نظرية النظم théorie des systèmes، وهي المتعلقة بالتباين الذي يحصل بين صورة النظام المثالية كما يضعها مهندسوه، وصورته الحقيقية المنزلة في الواقع، بسبب الانحراف والتحريف الصادر عن تصورات عموم الفاعلين صلب هذا النظام.

النظام المقصود هنا هو إما قانون الإصلاح التربوي أو المنهاج التربوي العام. ما نتوقعه بخصوص هذا المنهاج هو أنه في صورة قياس ملامح صورته في الواقع بعد مدة من تطبيقه، تتراوح مثلا بين ثلاث أو خمس أو عشر سنوات، فإن الأرجح هو أن نعاين ملامح مشوهة له لا شبه بينها وبين صورته الأصلية المثالية (أي وفق المثال النظري الذي وضع له)، تماما مثلما حصل مع المقاربة بالكفايات، وربما بشكل أفدح. هذا التوقع لا يمت بصلة لأي نزعة تشاؤمية نحملها، وإنما نحمله على سببين:

أولا: إن شبكة المفاهيم العلمية التربوية والسوسيوتربوية التي تمثل الرافعة النظرية للمنهاج تتطلب تكوينا مناسبا لاستيعابها من قبل المطبقين في الميدان، بدءا بالممهدين لهذا التطبيق نفسه، وهم المكونون. هذا الاستيعاب يتم في نظرنا بطريقتين متكاملتين:

- أولا: بالتكوين الأساسي للمدرسين والمكونين في العلوم التربوية والمنهاجية، حتى يكتسبوا القدرة على فكّ شفرة المنهاج وحذق لغته. وهذا لا يمكن تحقيقه من خلال شكل التكوين الحالي الممارس في كل من الإجازة التطبيقية للتربية والتعليم أو الذي قد يطبق في شعبة الماجستير المهني للتربية والتعليم. هذا التكوين يجب أن يتم في كلية علوم تربية تؤمن العمق الكافي للتكوينات.

- ثانيا: بتشريك المدرسين والمكونين في "إعادة بناء المنهاج" وفق تمش ديداكتيكي تشاركي يفضي، كما هو مأمول، إلى تبنيه معرفيا وبيداغوجيا ووجدانيا من قبلهم، حيث لا نجاح لأي تجديد في التربية لا يكون فيه الفاعلون الاجتماعيون منخرطين في ذلك التجديد ومتبنين له. ونحن هنا أمام مشكل حوكمة. لأن من معايير الحوكمة المشاركة والتوافق والمساواة والشمول. وهذا المشكل له ترجمته الديداكتيكية التكوينية من خلال تمشي التبني للمشكل والانخراط في حله la dévolution.

على سبيل الخاتمة، نقول إن هذا المنهاج له ميزات مرجعية عامة وعلمية، استفادت من مكتسبات وأدبيات تربوية سابقة وطنية وعالمية، ولكنه يبقى مع ذلك بدون نسب وطني سيادي وثقافي وايتيقي واضح، كما أن نجاحه مشروط من الناحية العملية بجملة من التدابير ذات العلاقة بالأجرأة وبالتكوين وبالانخراط والالتزام الطوعي الذي تضمنه التشاركية.

نوصي في ما يخص الجانب الأول بصياغة ميثاق وطني للتربية والتكوين ونوصي في ما يتعلق بالجانب الثاني بإحداث كلية علوم تربية وبتطبيق تمش تشاركي حقيقي في إعادة إنتاج المنهاج.


1- Develay, M., Donner du sens à l’école, Edition ESF, 1996. Perrenoud, Ph. (1997). Pédagogie différenciée : des intentions à l'action. Paris : ESF (5e éd. 2010).

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات