بمناسبة تنظيم الائتلاف المدني لإصلاح المنظومة التربوية لندوة علمية قدّم فيها قراءته لمشروع القانون المتعلق بالمبادئ الأساسية للمنظومة التربوية، الذي صاغته وزارة التربية (الحمامات، 22 نوفمبر، 2016)، يوم 27 جانفي 2017، بتونس العاصمة، تلقى الائتلاف رسالة من أحد التربويين الذي حضروا تلك الندوة، متضمّنة لبعض الملاحظات. وما استرعى انتباهنا بشكل خاص هو ملاحظة تتعلّق باعتماد الائتلاف لهندسة الإصلاحات التربوية القاضية باختيار أحد المداخل الخمسة المتعارف عليها عالميا لإعداد ذلك الإصلاح وتطبيقه. وقد اختار الائتلاف اثنين منها، هما: المدخل الاستراتيجي ومدخل الحوكمة الرشيدة (أو الحكامة الجيدة كما يقول إخوتنا المغاربة). فحوى تلك الملاحظة هو دعوةٌ للتخلي عن اعتماد منهجية المداخل (أو البراديغمات) بدعوى أنه "تحت تأثير عدد من الدراسات الأنثروبولوجية...تخلّت البحوث في العلوم الاجتماعية عن الاعتماد الحصري على النماذج النظرية أو المداخل (paradigmes) لتكتفي بالانطلاق من مبادئ كونيّة" (انتهى قوله).
تفرض الأمانة العلمية عدم إهمال هذه الملاحظة وعدم السكوت على هذا النقد الموجّه لاختيار منهجي لخطة الائتلاف الإصلاحية التربوية. ولذلك سأتولى الردّ عليه مع شكر صاحبه الذي أتاح لي فرصة إعادة تقديم هذه المسألة المنهجية بكل وضوح وتميّز بالمعنى الديكارتي للعبارة.
استراتيجيتي في الردّ لن تتمثل في الذهاب مباشرة "للدّفاع" عن خيار الائتلاف المنهجي. بل تتمثل في قطع ثلاث خطوات متتالية:
• أولا: فحص البديل الذي تقدم به المعارض وتقييمه ودحضه.
• ثانيا: إعادة تقديم البديل عن ذلك البديل الذي نرجّح أنه مغلوط.
• ثالثا: وضع المبادئ في مكانها الصحيح من استراتيجية الإصلاح التربوي
أوّلا: دعوى الكونية و تبيان الحدود الابستمولوجية والقيمية والحقوقية والإجرائية والمنهاجية لاعتماد "المبادئ الكونية" مطلقا في بناء المنظومة التربوية الوطنية.
1- دعوى "الكونية" وحدودها الابستمولوجية والقيمية والحقوقية:
ظهر القول بـ"المبادئ الكونية" في سياق الجدال القائم بين الباحثين في مجال "الأنثروبولوجيا الثقافية" حول طبيعة القوانين والمبادئ المتحكمة في نشأة وتطور الثقافات لدى الجماعات والشعوب والأمم كارتداد عن القول بالنسبية والتعددية الثقافية التي جاءت بداية للردّ على النزعة الأورمركزية أو ما يعرف بالمركزية الأوروبية.
فمن المعلوم أن الأنثروبولوجيون الأوائل هم سليلو مدرسة الاستشراق التي تسلّم بتفوق الحضارة الأوروبية وريثة الحضارة اليونانية، على سائر الثقافات. طبعا يمكن بكل يسر أن يردّ الصينيون أو الهنود بأن ثقافتهم هي الأرقى والأكثر حكمة وتسامحا وتنوعا وإنسانية، ويمكن أن يردّ المسلمون أو بعضهم على الأقل، بأن ثقافتهم الأصيلة هي الأفضل لأنها الأكثر توفيقا بين مطالب الروح ومطالب الجسد…الخ. وقد ردّ أحد فلاسفة الغرب وأبنائه بطريقة قاسية على زعم التفوق الغربي، وهو الشيوعي السابق ثم المسلم اللاحق روجيه جارودي، عندما أعلن في مطلع كتابه عن "وعود الإسلام" بأن "الغرب حادث تاريخي خطير" (l’occident est un accident) مستشهدا بقتله لـ 200 مليون إفريقي، فيما يشبه عملية إفراغ القارة السوداء من أبنائها، من أجل "اصطياد" مليونين منهم أحياء لنقلهم للعمل الشاق في القارة الجديدة المكتشفة أمريكا1 .
يمكن اعتبار فيلسوف التاريخ هيغل Hegel أحد أبرز آباء النزعة المركزية الأوروبية. عندما انتهى هيغل من تاريخ الشعوب الآسيوية والإفريقية، وشرع في كتابة تاريخ أوروبا، قال: "الآن يبدأ التاريخ"2 . يسلّم ورثة مدرسة الاستشراق من الأنثروبولوجيين بوجود مجالات ثقافية وحضارية متمايزة في العالم، غير أنهم يعتبرون النموذج الثقافي الأوروبي في طوره العقلاني الحداثي هو أرقى النماذج الثقافية وهو الجدير بالتتويج نموذجا كونيا للمبادئ الفلسفية والعلمية والقيمية3 . وأن بقية الشعوب والأمم التي لا تعتمد هذا النموذج مثل عديد الشعوب الآسياوية والإفريقية شعوبا من درجة أدنى ثقافيا وهي تقع خارج تاريخ العالم العام. ولذا لا مانع لدى منظري الامبريالية الثقافية من استعمار الشعوب غير الأوروبية لـ"ترشيد" تعاملها مع الطبيعة ومع المجتمع. أي إقحامها عنوة في نمط الإنتاج الصناعي الرأسمالي ونمط الإنتاج المعرفي العقلاني الغربي الحديث. لكن لا كشركاء في إنتاج الثروة المادية والمعرفية واستهلاكها، ولكن فقط كقوة عاملة لإنتاج الثروة المادية واستهلاك قدر منها ومن الثروة المعرفية بالقدر الذي يؤمن التفوق الأبدي للرأسمال وتوفر الحد المطلوب من قدرة المسخّرين لخدمته من التواصل المجدي معه.
ويعدّ كلود ليفي شتراوس (1987، 1952) Claude Lévi-Strauss من أبرز الأنثروبولوجيين الذين تصدّوا لهذه النزعة الاستعمارية للغرب المستندة إلى تفوقه الحضاري والمادي الحالي، مذكرا إياه بفضل عديد الحضارات عليه، ومن بينها الحضارة العربية والصينية، ومفنّدا دعوى رغبة أغلب الشعوب الإفريقية والنامية في التغرّب بدافع اقتناعهم بالتفوق المطلق للحضارة الغربية، بالتذكير بعدم وجود خيارات أخرى تعي بها هذه الشعوب أمام الهجمة المادية والثقافية والإعلامية للغرب عليها وطارحا بديل التعاون والتعايش بين الثقافات عوضا عن إرادة هيمنة بعضها على البعض.
دعوى "المبادئ الكونية" إذن التي أطلقت في الغرب، أطلقت من مصدرين مختلفيْ التوجّه والغاية:
- مصدر امبريالي: الرأسمال وكل الجيوش المسخرة لخدمته عسكرا ومثقفين وباحثين وإعلاميين.
- مصدر إنسانوي: يدافع عن حق الشعوب في التمتع بخيرات بلدانها وفي مشاركة العالم المتقدم في المعرفة والصحة والغذاء والرفاهية والحقوق المدنية والإنسانية.
والذين لهم اليد الطولى والتأثير الحاسم في سياسات البلدان النامية والبلدان المستعمرة قديما والملحقة حديثا بالمستعمر القديم هم الكولونياليون وأتباعهم الممكّن لهم بالتلاعب المالي والإعلامي والمخابراتي باتجاهات الرأي العام.
خلاصة القول إذن أن شعار "المبادئ الكونية" هو كلمة حق أريد بها باطل. هو نكوص وارتداد عن القول بالتعدد والتنوع الثقافي وبالخصوصيات الثقافية والتعايش بين الثقافات وإرادة للهيمنة والاستحواذ على ثروات البلدان الضعيفة.
القول بالمبادئ الكونية بمعنى إرادة التوحيد القسري والإدماج القهري لكل الشعوب والأمم والدول في النموذج الغربي هو مناورة استعمارية استحمارية ليست في الكونية والعالمية الحقيقية في شيء. وقد وجدت آخر تعبيرين لها في كتاب هنتنغتون عن "صدام الحضارات" (ودونالد ترمب الآن يعود لتكريسه بكل سرعة وجهد) وفي كتاب فرنسيس فوكوياما عن "نهاية التاريخ" والتفوق النهائي للنموذج الليبيرالي الغربي.
لننظر في مقابل ذلك في المفهوم القرآني للعالمية: إنه مفهوم يستند إلى معنى "التعارف": "شعوبا وقبائل لتعارفوا" (الحجرات: 13). أي من دون أي إرادة قهر وهيمنة واستعلاء. وإنما بكل تواضع ورفعة أخلاق: التعارف. أي تبادل المعرفة والتعرف والاعتراف. وهذا ما وصل إليه بالفعل النقد المابعد حداثي للعقلانية الغربية مع فلاسفة لامعين من مثل يورغن هابرماس الذي اجترح مفهوم "العقل التواصلي" عوضا عن "العقلانية الكونية" الزائفة في كتابه "نظرية الفعل التواصلي"4 . وهذا هو سبب التحول بالعلم من المفهوم العقلاني الكوني الكلاسيكي المغلوط إلى مفهوم البراديغم الذي يقحم معنى الجماعة العلمية والتاريخ في إيجاد تواضع ما حول جملة من النظريات والمعطيات والمبادئ العلمية وطرق البحث والاستكشاف. وهذه مسألة سنعود إليها لاحقا بقدر من التفصيل.
لنتوقف مرة أخرى عند معنى قرآني آخر خالد على صلة وثيقة بأخلاق وآداب التعارف، وهو معنى الاختلاف وكونية الاختلاف وليس كونية الاتفاق الامبريالي.
قال تعالى: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ" (هود: 118-110).
معنى "ولذلك خلقهم" هو أنهم مفطورون على الاختلاف وأن الاختلاف سنّة كونية. الكوني الحقيقي هو الاعتراف بالاختلاف وتقبل الآخر المختلف والاتفاق حول قواعد عيش مشترك بصفة تواضعية وليس بفعل الإلزام المستند إلى التأصيل في قواعد عقلانية مزعومة. لأن ما قد يكون معقولا وعقلانيا لديك قد لا يكون كذلك لديّ. انظر مثلا في انقسام المجتمع الفرنسي إلى شطرين حول قضية "المثلية الجنسية"، وانقسام المجتمع الأمريكي حول قضية "الإجهاض"، وانقسام فلاسفة الأخلاق والأطباء حول قضية "الموت الرحيم"..الخ. والديمقراطية بمعناها الغربي الحالي لا تمثل بالتأكيد حلا حقيقيا لهذه المعضلات. فهل أن مجرد تفوق بسيط لعدد المصوتين لصالح "المثلية الجنسية" يضفي عليها حقا مشروعية أخلاقية أساسية ويحل فعلا الإشكال القيمي والطبي والنفسي اجتماعي والتربوي والتواصلي لهذه القضية؟ الديمقراطية بهذا المعنى "الصندوقي" مهزلة وفضيحة كبرى وأغلوطة منطقية حتى: فهي تريد أن تفرض حلا كميا لمسألة نوعية ومعنوية وقد وجدت الديمقراطية المعاصرة الحل أحيانا لمثل هذه المشكلات بتفويض قدر كبير من السلطات لرئيس البلاد في الأنظمة الرئاسية، حيث يجتهد شخص الرئيس ومؤسسة الرئاسة بديلا عن كل أجهزة الدولة والشعب للحسم في قضايا قد تكون محلّ غموض وخلاف كبير. ولكن لهذا الحل أيضا مساوئه وحدوده، مثلما نشهد الآن مع المجنون دونالد ترامب.
لنلتفت قليلا إلى الوراء، من أجل التقدم أكثر إلى الأمام.
في سياق حضارتنا الإسلامية التي هي حضارة توحيدية بامتياز في مرجعيتها المتعالية، ظهر تعدّد كبير في المذاهب الكلامية والفقهية. وهو تعدّد قد حاز قدرا من الاعتراف الرسمي المنظم بين المختلفين في فترات الازدهار الحضاري للمسلمين، وعرف ضعفا وتلاشيا في فترات تأخرهم. فعلى سبيل المثال بنى صلاح الدين الأيوبي مدرستين: الأولى للمالكية سنة 566هـ، والثانية للشافعية وتابعه من جاء بعده. وبنى الملك الكامل بالقاهرة دار الحديث المعروفة بالكاملية سنة 622هـ وجعلها للمذاهب الأربعة، وتابعه الملوك من بعده مثل الظاهر بيبرس، والمنصور قلاوون وأقام الملك العادل في دمشق المدرسة العادلية، والملك الظاهر في دمشق أيضا المدرسة الظاهرية5» .
ففي إطار مذهب "أهل السنة والجماعة" (براديغم كلامي/فقهي كبير) ظهرت براديغمات فقهية عديدة. وهي التي نسميها مذاهب. المذهب المالكي والمذهب الحنفي والمذهب الشافعي والمذهب الحنبلي. كل مذهب يحوز إجماع جماعة من العلماء وتوافقهم حول جملة من المرجعيات ومن قواعد إنتاج العلم (مناهج التشريع والاجتهاد الفقهي) ومن الأحكام. وهذه المذاهب تلبي شروط تكون البراديغمات بامتياز، كما سنرى ذلك لاحقا لما نبسط القول في تعريف البراديغم وعناصره.
في سياق الحضارة العربية الإسلامية سمحت سماحة الإسلام ومفهومه الكوني الأصيل للعالمية بتواجد منظومات فكرية وفلسفية واعتقادية وفقهية عديدة داخل الملّة الإسلامية وخارجها ممن اندمجوا في المجتمعات الإسلامية، من يهود ونصرانيين وصابئة وغيرهم. وظهرت قواعد للمناظرة تشهد بمعنى الاعتراف بالـ"الإطار" أو "النموذج" أو "البراديغم" (المذهب في الاصطلاح القديم). من ذلك مثلا ما رواه الاصفهاني في "محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء"، أنه "اجتمع متكلمان، فقال أحدهما للآخر: هل لك في المناظرة؟
فقال الآخر: على شرائط: ألاّ تغضب، ولا تعجب ، ولا تشغب، ولا تحكم، ولا تُقبل على غيري وأنا أكلمك، ولا تجعل الدعوى دليلا، ولا تجوّز لنفسك تأويل آية على مذهبك إلاّ جوزت لي تأويل مثلها على مذهبي، وعلى أن تؤثر التصادق، وتنقاد للتعارف، وعلى أن كلا ً منا يبني مناظرته على أن الحق ضالته والرشد غايته6.
وبطبيعة الحال توجد حالات مثيلة في كلّ أو جلّ الثقافات والحضارات بما في ذلك الحضارة الغربية الحديثة نفسها. فعندما نتحدث عن العقلانية الغربية، هل نحن إزاء عقلانية واحدة أم في مواجهة ضروب مختلفة من العقلانية؟ بالتأكيد نحن نواجه تعددية حقيقية بخصوص هذه القضية. فمن يمثل العقلانية الغربية حقا؟ هل هي العقلانية المثالية الكانطية أو الهيغلية أم العقلانية الجدلية المادية الماركسية؟ من هو العقلاني حقا: هل هو أوغست كونت الذي لم يعترف إلا بالمرحلة الوضعية في صيرورة تطور العقل البشري وأنكر مراحل الأسطورة والدين والميتافيزيقا، أم عمانويل كانط الذي قال: "كنت أريد أن أضع حدًّا للعقل من أجل أن أفسح مجالاً للإيمان"؟7 أم هنري برغسون رائد الفلسفة الحيوية وصاحب كتاب "ينبوعا الدين والأخلاق"؟ هل العقلاني هو نيتشه الذي تفطن إلى تأثير اللاشعور في الفكر واعتبر الأنا مجرد وهم، تخفي وراءها عقلا كبيرا هو الجسد بغرائزه، أم ديكارت الذي يحسب أنه بمقدوره رؤية كل الأمور بوضوح وتميز بسند من الله مبطل ألاعيب الشيطان الماكر؟ من هو العقلاني حقا الفنومنولوجي هوسرل أو ديلتاي، الذان اختارا منهج التفهّم بديلا عن منهج الفهم، أم الوضعاني الجديد كارل بوبر أم العقلاني التطبيقي غستون باشلار صاحب "العقلانية المفتوحة" أم باشلار الفينومنولوجي الشّاعري صاحب "المادية الشّعرية والفنّية المفتوحة"، الذي يرى سعادة الإنسان في تحالف ما هو عقلاني فيه مع ما هو شاعري فيه، جًمعًا بين الكائن النهاري (العاقل) والكائن الليلي (الحالم حلم يقظة)؟
2- الحدود المنهجية والإجرائية لخيار "المبادئ الكونية" في وضع استراتيجية الإصلاح التربوي:
يدافع بعض الرافضين لفكرة أو خيار "المداخل" (أو البراديغمات) عن خيار "المبادئ الكونية" للانطلاق منها في وضع استراتيجية للإصلاح التربوي. فإلى أيّ مدى يمكن الأخذ بهذا الخيار "البديل" عن "المداخل"؟
- أولا نذكّر بأن ما هو منصوص عليه في مشروع القانون التربوي الجديد هو "مبادئ أساسية" وليس "مبادئ عامة". العمومية حُملت بالأحرى على "أحكام"، حيث جاء العنوان الأول من "مشروع قانون يتعلّق بالمبادئ الأساسية للتربية والتعليم" تحت مسمّى "أحكام عامّة".
لنناقش الأمر من وجهيْه: من وجه "المبادئ الكونية" إذا كان صاحب المصطلح مصرّا عليه، ومن وجه المبادئ الأساسية، إن كان مستعدا لاستبداله بما جاء في تسمية مشروع القانون التربوي الجديد.
هل تصلح "المبادئ الكونية" منطلقا لإصلاح أو إعادة بناء النظام التربوي؟
أولا، سبق دحض دعوى "المبادئ الكونية" في الجزء السابق من هذا المقال. ولكننا مع ذلك سنتجاوز هذه العقبة، بالتسليم جدلا بهذه المبادئ.
كيف تكون "المبادئ الكونية" منطلقا لبناء نظام تربوي إو إصلاحه من الناحية المنهجية والإجرائية؟
إن القول بكونية هذه المبادئ يفترض حتما حصول إجماع عالمي حولها. وبالتالي وجوب اعتمادها من قبل جميع الدول والمنظومات التربوية. ووحدة هذه المبادئ المستمدة من كونيتها المفترضة يؤدي حتما إلى وحدة النظم التربوية المنبثقة عنها. أي الوصول في النهاية إلى نظام تربوي كوني واحد صالح لجميع الشعوب والدول والأمم. هذه النتيجة تبدو غريبة من الناحية الواقعية بشكل مضاعف:
فأولا، لا يشهد الواقع حقا بوجود نظام تربوي واحد في العالم، بما في ذلك في البلدان المتبنية لنفس تلك "المبادئ الكونية" المفترضة. ففي أوروبا العقلانية وحقوق الإنسان وحدها توجد عشرات الأنظمة التربوية المختلفة. ولهذا التنوع والتعدد أسبابه الموضوعية والثقافية.
ثانيا، هل أن احتياجات كل الأنظمة التربوية هي نفسها في كل بلدان العالم وهل أن المعضلات التي تواجهها هي نفسها، في فرنسا وأمريكا واليونان وماليزيا والسودان وطاجكستان وتونس..الخ حتى نضع لها جميعا نفس الحل المنبثق امبرياليا من نفس النموذج القيمي ومن نفس المبادئ الكونية؟
فنلاحظ هنا عدم واقعية القول بالانطلاق أساسا وحصرا من "المبادئ الكونية" لإصلاح أو إعادة بناء أي نظام تربوي، بما في ذلك النظام التربوي التونسي بطبيعة الحال.
هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، كيف سنحلّ معضلات النظام التربوي المنهاجية والمؤسسية والبيداغوجية بالاستناد بصفة رئيسية إلى "المبادئ الكونية" ؟
فعلى سبيل المثال، توجد في عالم البيداغوجيا عشرات الطرق البيداغوجية وعديد المقاربات التربوية التي تعود كلها إلى الفترة الحديثة. فهل ستساعدنا هذه "المبادئ الكونية العامة" على الاختيار من بين هذه المقاربات وهذه البيداغوجيات؟ وعلى العكس من ذلك، يبدو براديغم "الحوكمة الرشيدة" مثلا، مساعدا على اختيار بعض تلك البيداغوجيات، انطلاقا من المعايير المشتقة من الحوكمة والموجودة فعلا في تلك البيداغوجيات. فالبيداغوجيا المؤسّسية مثلا تستجيب تماما لمعياري المشاركة والاستقلالية على سبيل المثال. والتعليم البنائي يسهم فعلا في تحقيق جودة التعلم إذا اخترنا أن نجعل الجودة المطبقة في التربية مدخلا للإصلاح التربوي..الخ. وسنعود إلى مثل هذه المسألة لاحقا.
من ناحية ثالثة، لم يخل نصّ مشروع قانون "مبادئ أساسية للمنظومة التربوية" من إحالات مباشرة أو غير مباشرة لبعض مداخل الإصلاح التربوي ومناويله، مثل "الحوكمة الرشيدة" التي خصص لها عنوانا مستقلا وذكّر فيها ببعض معاييرها. كما توجد بعض المؤشرات على نية صائغي المشروع على اعتماد مدخل الجودة كذلك (بغض النظر عن مدى توفقهم في إحكام السيطرة المفهومية والإجرائية على هذا المفاهيم/المداخل الإصلاحية). ولذا فهذه المبادئ الأساسية القانونية لم تكتف بـ"المبادئ الكونية" وإنما مزجت بينها وبين عديد المفاهيم والمعايير المنتمية إلى سجلات ومرجعيات ومستويات بناء منظومي تربوية وإصلاحية مختلفة.
رابعا، إن التوقف عند مرحلة "المبادئ الكونية" لا يسمح بأجرأة الإصلاح التربوي، أي تنزيله موضع التصورات التنفيذية، وذلك لغياب المعايير والمؤشرات في تلك المبادئ العامة، حيث لم تشتغل الجماعات العلمية العالمية على هذا الأمر، وفعلت ذلك في المقابل مع "الحوكمة" و"الجودة" و"التخطيط الاستراتيجي"..وغيرها من مداخل الإصلاح في الاقتصاد أو الصناعة أو التربية.
ما نستنتجه في نهاية هذا العنصر أن الترويج للـ"المبادئ الكونية" منطلقا ومدخلا للإصلاح التربوي إن هو إلا استجابة لنزعة إيديولوجية وضعانية أو حقوقوية متعسّفة على خصوصية المجال التربوي الذي هو مجال شديد التركيب وبه مستويات عديدة في التقييم وإعادة البناء والإنجاز، منها ما هو فلسفي، ومنها ما هو هندسي لامادي، ومنها ما هو هندسي مادي، ومنها ما هو بيداغوجي أو مؤسسي..الخ.
ثانيا: مفهوم البراديغم في العلوم الصحيحة والعلوم الإنسانية
البراديغم أو البراديم ترجم إلى العربية بطرق مختلفة ومن أبرزها ترجمته إلى "نموذج إرشادي". أوّل من اجترح مفهوم الباديغم هو مؤرخ العلوم توماس كوهن Thomas Khun (1962)8 ، وقد اقترحه كوهن بديلا عن التصوّر التراكمي للعلم. أي أنه يرفض القول بأن تاريخ العلم هو تاريخ متّصل يستوعب تراكمات متتالية للمشكلات والنظريات والمفاهيم العلمية. ويلفت كوهن النظر إلى مرور العلم في كل مجالاته بأزمات تستوجب عند اشتدادها تغيير النظرة إلى العلم نفسه انطلاقا من تغيير النظرة إلى العالم. وهذا التغيير لا يحصل إلا بثورة علمية. وهذه الثورة لا تحصل بمجرد وجود بعض المشكلات في العلم الحالي. بل يمكن أن يستمر "البراديغم" الحالي في الاشتغال إلى حين حصول إجماع من الجماعة العلمية في لحظة تاريخية معينة بأنه لم يعد بالإمكان التقدم بالعلم وحل المشكلات العلمية الجديدة بنفس النظرة القديمة للعلم والعالم. فينشأ عن ذلك تدريجيا بناء براديغم علمي جديد.
وهذه المراحل الرئيسية لظهور براديغم جديد: 1- ماقبل العلم، 2- العلم السويّ. 3- أزمة مستفحلة. 4- ثورة علمية. 5- علم سوي جديد. 6- أزمة جديدة…الخ.
يتمثل البراديغم في ماتريس (بنية متعددة الأبعاد) خاصة بالمجال العلمي المحدد، وهي تتركب من 4 مكونات:
- تعميمات رمزية مثل القوانين والنظريات العلمية.
- نظرة معينة للعالم (ميتافيزيقا) وطرق استكشافه والتعبير عن ظواهره.
- القيم الجامعة بين جماعة العلماء (مثل التناسق النظري والوضوح ..الخ).
- النموذج المشتمل على الأمثلة القابلة للتعميم عن طريقة حل المشكلات العلمية.
أهم ما يميز مفهوم البراديغم كنظرية في كتابة تاريخ العلم أمران:
- مفهوم الثورة العلمية
- والدور السوسيولوجي الذي تلعبه الجماعة العلمية في بناء النظرية العلمية. أي لا بدّ من تشاطر المعرفة العلمية، وهو ما يتجسّد حاليا في عملية تحكيم المنتوج العلمي، ولا بدّ من التواضع والاتفاق على وثقية المعرفة العلمية المتشاطرة بناء على خلفية أنطولوجية وميتافيزيقية معينة (مثلا طرد السحر من العالم وعدم الاعتراف به، أو القول بوجود الروح أو عدم وجودها، وأنه يمكن النظر للعالم كمكنة مكتفية بذاتها (نيوتن)، لا يحتاج تفسيره إلا فرضية الإله والإيمان، أو العكس من ذلك وضع الإيمان قاعدة في بناء العلم، مثل العلوم النفسية مثلا، خارج البراديغم النفس تحليلي الفرويدي). لقد أعاد كوهن الاعتبار لدور المجتمع والثقافة في كيفية بناء العلم وإنتاجاته. وهو ما يقطع مع المفهوم الكلاسيكي لعلم كوني عابر للزّمان والمكان.
من الثورات العلمية الشهيرة الحاصلة في مجال الفيزياء مثلا، هو المرور من فيزياء نيوتن إلى فيزياء ماكسويل الخاصة بالحقول الكهربائية والمغناطيسية والكهرمغناطيسية، ومنهما معا إلى فيزياء أنشتاين ونظريته في النسبية العامّة وإلى الفيزياء الكوانطية.
وفي الحقيقة إن حصول ثورة علمية ما وظهور براديغم علمي جديد لا يؤديان بالضرورة إلى الإبطال الكامل لصحة النظريات العلمية التي ظهرت في البراديغم السابق. فمثلا ما زلنا إلى اليوم ندرس أنواع الفيزياء الثلاث التي تم ذكرها منذ حين. فقط يجب الانتباه إلى أن كلا من تلك الأنواع الثلاث من الفيزياء لها حقل صلوحية محدود. أي أنها لا تقدر على تفسير إلا فئة معينة من الظواهر والألغاز الطبيعية. فقوانين الجاذبية ما زالت فعالة في تفسير العالم الماكروفيزيائي في حدود مسافات كونية معينة وما زلنا قادرين على التأثير في هذا العالم بمفعول استخدامنا لتلك القوانين. وعندما يتعلق الأمر بالظواهر الميكروسكوبية يجب الانتقال إلى براديغم جديد. كما أن ظهور ما يُسمّى بالهندسات اللاإقليدية مع ريمان الألماني ولوباتشفسكي الروسي، لم يُلغ الهندسة الإقليدية، بل أصبح لدينا ثلاث أنساق هندسية صالحة كلّها، الأولى ترى الفضاء محدّبًا، وتجعل من مجموع زوايا المثلث تفوق 180 درجة، والثانية ترى الفضاء مقعّرا، وتجعل مجموع زوايا المثلث دون 180 درجة، أما هندسة إقليدس، فهي ترى الفضاء مسطّحًا، وتكون زوايا المثلّث فيه مساوية لـ180 درجة. وأحيانا يمكن النظر إلى نفس الظاهرة الطبيعية من منظورين مختلفين دون أدنى تعارض بينهما. مثلما ما هو الحال في نظرتنا إلى الضوء. حيث يمكننا النظر إليه كموجات كهرمغناطيسية متصلة (في الفيزياء التموجية)، كما يمكننا النظر إليه كجسيمات particulesأو صنيدقات طاقة منفصلة photons (في الفيزياء الستاتيكية). يتعلق الأمر إذن بزاوية نظر وباختلاف زاوية النظر إلى نفس الظاهرة الطبيعية.
لقد وجه كارل بوبر Karl Popper (1997) نقدا لكتابة تاريخ العلم باستخدام مفهوم البرايغم محاولا ردّ حجّة عدم التقايس بينها التي أشهرها توماس كوهن، باعتبار أن لكل براديغم مرجعيته الأنطولوجية والميتافيزيقية وطريقته في حل المشكلات العلمية، بذكر عدّة وقائع تؤكّد وجود عدّة حوارات وصراعات بين أفراد منتمين لجماعات علماء مختلفين أو متفردين بنظريات ورؤى علمية بارزة بشكل متزامن أو غير متزامن كما هو الحال في ما يخص نظرية تكوين المادة، "حيث نشبت الحرب الخصيبة المثمرة بين النظرية الذرية والنظرية الاتصالية، منذ فيثاغورس وبارمنيدس وديمقريطس وأفلاطون، حتى هيزنبرج وشروندجر"9 . ولكن، حسب رأينا، وجود هذه الحوارات والصراعات لا يجعل هذه الأطر النظرية أو البراديغمات تنحلّ لتترك مكانها لعلم "كونيّ واحد"، وإنما قد تُكتشف بينها بعض التقاطعات، أو أن الأمر لا يعدو أن يكون أحيانا مجرّد تعدد زوايا نظر للموضوع الواحد، لا يمكن الجزم بصدق أي منها بإطلاق، وإنما الوقوف فقط على فعاليتها الإجرائية في تفسير بعض الألغاز العلمية وإمكانية تطبيق حلولها بعد ذلك. وقد قدمنا منذ حين أمثلة على "تعايش" عدّة براديغمات في الزمن الواحد باعتبار اختصاص كل منها بحقل صلوحية، كما يمكن قبول هذا "التعايش" تسليما بمبدإ تعددية زوايا النظر.
وهو ما يمكن ملاحظته حتى بخصوص بعض البراديغمات في مجال العلوم الإنسانية. لدينا مثلا في علم النفس العرفاني ونظريات التعلم باراديغمات شهيرة هي البراديغم السلوكي والبراديغم العرفاني ويمكن الحديث ربما حتى عن البراديغم النفس تحليلي. حيث يتّسع هذا البراديغم للسيروات الأولية (غير المعرفية) والثانوية (المعرفية الواعية واللاوعية) معا.
وكما هو الحال في مجال الفيزياء، بإمكان العلماء في كل واحد من هذه البراديغمات تفسير فئة من الظواهر والإجابة عن عدد من المشكلات النفسية والسلوكية انطلاقا من قواعد النظر في كل واحد منها. ولكن هذا لا يوقعنا في نسبية مطلقة، لا في مجال المادة الهامدة ولا في مجال المادة الحية أو الواعية، حيث إن كل براديغم جديد هو فعلا يأتي بـ"الجديد" أي يحسّن ويطور من فهمنا للعالم ومكوّناته. وهذا ما يقرّ به توماس كوهن نفسه.
لنتوقف الآن عند استخدام مفهوم البراديغم في مجالنا المخصوص الذي هو مجال التربية. قد يفاجأ البعض عندما نقول إن استخدام التربويين لهذا المفهوم لا يعدو أن يكون في الغالب استخداما اصطلاحيا وليس استخداما مفهوميا حقيقيا. فالذي يشرّع لظهور براديغم جديد هو حدوث أزمة عميقة في البراديغم السابق عليه وظهور ألغاز يستحيل حلها ضمن قواعد العلم كما يقرها البراديغم الراهن، إلى درجة حصول ثورة علمية كاملة بفعل مجهودات متشاطرة ومتبادلة ومعترف بها جماعيا في "جماعة العلماء" المنخرطة في هذا البراديغم. فهل أن هذا هو ما يحصل فعلا ودائما عندما نطلع على هذه الوفرة والتخمة من استخدام مصطلح (هو مفهوم بامتياز) "براديغم" في التربية وفي عديد المجالات الاجتماعية والإنسانية الأخرى؟
إذا تصفحنا على سبيل المثال "معجم علوم التربية"10 ، فسنجد خمسة عشرة نوعا من البراديغمات التي يمكن العمل ضمنها في التربية، مثل البراديغم الثقافي والبراديغم الصناعي والبراديغم الإيكولوجي والبراديغم الوجودي والبراديغم الإبداعي والبراديغم المؤسسي والبراديغم العقلاني والبراديغم الإنسانوي…الخ.
ما نستنتجه من هذه الوفرة في البراديغمات أن هنالك استسهالا في استخدام مسمى باراديغم لتعيين اختيار بيداغوجي معين وأحيانا حتى مجرد طريقة بيداغوجية أو مقاربة تعليمية.
فهل حدثت بالفعل أزمات وثورات علمية وبناءات جديدة أنجزها جماعات من العلماء المتفقين حول نظرة معينة للعالم أنطولوجيا وميتافيزيقيا وحول طرق معينة في البحث العلمي والكتابة العلمية…حتى نقول إننا بالفعل أمام ظهور براديغمات جديدة. والذي يزيدنا حيرة هو ظهور هذه البراديغمات في أغلب الحالات بشكل يكاد يكون متزامنا هنا وهناك في هذه التقليد البحثي أو ذاك، دونما تبادلية حقيقية ودونما تواضع حقيقي بين "جماعة العلماء".
ما نقوله هنا عن هذه البراديغمات لا نجد حرجا في قوله حول "براديغمات الإصلاح التربوي نفسها": براديغم الحوكمة الرشيدة وبراديغم الجودة والبراديغم القطاعي والبراديغم الاستراتيجي..الخ. هنا نجد أنفسنا أقرب إلى المعنى الخاص الثاني لمفهوم براديغم لدى توماس كوهن منه إلى المعنى الكبير الذي خصه به. هذا المعنى الخاص هو أن يكون البراديغم عبارة عن نموذج نظري يحتوي على أمثلة قابلة للتعميم وإعادة التطبيق عن طرق حل طائفة من المشكلات العلمية"11 . فالحوكمة الرشيدة بمعاييرها ومؤشراتها المعلومة في مجال التربية يمكن أن تكون حلا لمشكل الفساد في الإدارة ومشكل هدر الإمكانيات وسوء التصرف في الموارد البشرية والمادية للمنظومة التربوية. وبراديغم ضمان الجودة في التربية يمكن أن يكون عبر مختلف تمشيات ومعايير تأمين الجودة الرفع من مستوى أداء المدرسة والمؤسسة التربوية بشكل عام من الناحيتين الكمية والنوعية..الخ. بهذا المعنى التقريبي فقط، حسب رأينا، يمكن القبول بمصطلح براديغم في مجال الإصلاح التربوي.
وفي الحقيقة قلّ أن نعثر على هذا الاستخدام الاصطلاحي في أدبيات الإصلاح التربوي. وإنما نجد مثلا عند اعتماد البراديغم الاستراتيجي استخداما لمصطلح "الرؤية الاستراتيجية" كما هو الحال في "الرؤية الاستراتيجية لإصلاح المنظومة التربوية" التي وضعها مؤخرا المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي في المغرب. وهي رؤية تستدمج أيضا براديغم الجودة في التربية كرافعة من رافعاتها وكذلك الحكامة الجيدة أو الحوكمة الرشيدة.
وفي المقال الذي نشره أ.د. محمد بن فاطمة حول كيفية التخطيط للإصلاح التربوي استخدم هذا الباحث والخبير الدولي مصطلح "المدخل" أو "المنوال" ولم يتعرض إلا نادرا لمصطلح "البراديغم"12 . ومع ذلك فإننا، وبعد بيان حدود المشروعية الابستمولوجية لاستخدام مصطلح "براديغم" للإشارة إلى مفهوم "المدخل إلى الإصلاح"، فإننا لن نجد حرجا في استخدامه بالمعنى الذي يقترب من المعنى الثاني له لدى توماس كوهن أي كنموذج لحل نوع من المشكلات بشكل ملائم. مثل حل مشكلات الفساد بنموذج الحوكمة الرشيدة.
وقد تبنى الائتلاف المدني لإصلاح المنظومة التربوية بتونس مدخلين في كتابه الأبيض لإعادة بناء المنظومة التربوية (جويلية، 2015) وهما المدخل الاستراتيجي ومدخل الحوكمة الرشيدة، لكونهما غير متعارضين من الناحية الابستمولوجية (انسجام وتكامل المعايير) ولكونهما مناسبين للمرحلة الحالية للمدرسة التونسية بعد الثورة.
قبل الانتهاء من هذا العنصر نلفت الانتباه إلى أن براديغمات الإصلاح التربوي الخمسة التي ذكرها أ.د. بن فاطمة لا توجد مجتمعة في درس من دروس علوم التربية ولا في أي وثيقة أخرى، غير الوثيقة التي كتبها هذا الباحث الخبير الدولي. وهي نتيجة قراءات وبحث معمق له ونتيجة نظر في أدبيات الإصلاح التربوي وممارسة وظيفته خبيرا دوليا أوّل في التربية. أي أنها نتيجة عمل استقرائي شامل من قِبَلِه.
فلماذا تبنّى الائتلاف المدني هذا الاختيار المنهجي في الإصلاح التربوي؟
يقودنا هذا السؤال إلى المرحلة الثالثة والأخيرة من هذا المقال، والذي سنجيب فيها على سؤال: كيف نبلور استراتيجية في الإصلاح التربوي؟
ثالثا: كيف نبني استراتيجية في الإصلاح التربوي؟
1- لماذا نختار مدخلا للإصلاح؟
عندما نواجه معضلة أزمة النظام التربوي تطرح علينا، بعد رصد مظاهر الإعضال، أسئلة جوهرية هي أسئلة أسباب الأزمة ومواطن الإعضال وسبل العلاج.
مواطن الإعضال تختلف عن أسباب الأزمة. مثلا يمكن أن يكون أحد الأسباب هو غياب الديمقراطية الذي يحرم المجموعة الوطنية من حسن استغلال الكفاءات الوطنية ومن النقد البناء..الخ. ويمكن أن يكون الفساد موطن إعضال بحكم غياب الرقابة والمساءلة والشفافية التي لا تتوفر إلا في نظام حوكمة رشيدة ديمقراطي.
كيف نصلح؟ سؤال يُحمل على أسباب الفشل وعلى معضلات النظام الفاشل معا. لا يكفي مثلا تغيير نظام ديكتاتوري بنظام ديمقراطي لتزول كل معضلات الدولة في التنمية والتربية والأمن..الخ. ولكن معالجة هذه المعضلات في إطار نظام ديمقراطي هو بالضرورة أمر أيسر من إرادة تحقيق ذلك في نظام ديكتاتوري حتى وإن كان ينسب لنفسه "العدل" (العدل في توزيع التسلط والظلم في غالب الأحيان).
نحن الآن في نظام ديمقراطية ناشئة. ويجب العمل على ترسيخها وهذا عمل المواطنين على الصعيد السياسي في الأحزاب وفي مؤسسات الدولة وفي المجتمع المدني.
لنعد إلى سؤال "كيف نصلح"؟
من الناحية النظرية الشاملة، علينا أن نصلح كل وسائل وطرق العمل المعطّلة لبلوغ الغايات والأهداف المرسومة. طائفة كبيرة من تلك الوسائل والطرق تقع مثلا تحت عنوان "الفساد". الفساد بنوعيه الإداري والمالي. الطريق أو المدخل العريض المقترح عادة لكسب هذا الرّهان هو الحوكمة الرشيدة. الحوكمة الرّشيدة استراتيجية إداريّة وفي التصرّف في الموارد المادية واللامادية والبشرية وقيادة المؤسسة لترشيد ذلك التصرف وتجنب أقصى ما يمكن من الهدر وإضاعة مقومات العمل الناجح والأداء الناجع للمنظومة التربوية.
أحيانا يبذل الفاعلون في المؤسسة التربوية غاية جهدهم لحسن التصرّف في موارد المؤسسة ولكن النتائج تظل دون المأمول من حيث الجودة. هنا يكون المدخل إلى الإصلاح هو وضع منظومة جودة مناسبة.
في حالات أخرى، يكون الارتجال وتطبيق منهج التجربة والخطأ من دون الاستناد إلى أي خلفية نظرية أو نموذج ناجح في التربية معضلة كبرى للنظام التربوي، ومن هنا تأتي الحاجة إلى التخطيط الاستراتيجي، وهذا مدخل ثالث للإصلاح.
ما أريد أن أصل إليه هو أن المدخل إلى الإصلاح لا يتم اختياره بصفة اعتباطية وإنما بحسب نوع المعضلات التي يراد معالجتها. وبصفة أدقّ بحسب ما يتمّ تقييمه من جسامة وفداحة الإخلالات والإعضالات ونتائجها الوخيمة على المنظومة التربوية. أي بحسب سلّم أولويّات. فمن البديهي أن النظام التربوي المثالي المنشود هو نظام مخطط له استراتيجيا وخال من الفساد وملبّ لكل معايير الجودة في مجال التربية والتعليم.
ولكن ليس من المقبول من الناحية العملية مثلا أن نبحث عن الجودة في نظام ينخره الفساد. فلا بدّ من محاصرة الفساد الذي فيه أولا ثم نتوجه بعد ذلك إلى ضمان تطبيق معايير الجودة الشاملة على هذا النظام في مستوى مدخلاته وتمشياته الوسيطة، لنتحصل على نواتج جيدة في المخرجات. وهذا ما اخترناه مثلا في "الكتاب الأبيض للائتلاف المدني لإعادة بناء المنظومة التربوية".
اختيار أحد مداخل الإصلاح التربوي لا يكون إلا بعد إجراء تقييم شامل وعميق للمنظومة التربوية لمعرفة أي مدخل يجب اختياره بصفة رئيسية للإصلاح. هذا التقييم يطرح في الحقيقة إشكالا ابستمولوجيا. وهو إشكال معايير التقييم. فمن المعلوم أن مصدر هذه المعايير هي براديغمات الإصلاح كبراديغم الجودة المطبقة في التربية أو براديغم الحوكمة الرشيدة أو البراديغم الاستراتيجي..الخ. فكيف نتجاوز هذا الدور (الحلقة المفرغة: لتحديد براديغم الإصلاح نقيّم المنظومة وفق معايير براديغم معين !)؟ الحلّ يتمثل هنا في عدم اعتماد منهجية استنباطية وإنما في اختيار المنهجية المقابلة: الاستقراء. أي القيام ببحوث امبريقية واستكشافية تجمع فيها ملاحظات عبر طرق التحقيق الميداني المختلفة وعبر تحليل المضامين، ثم تصنّف المعطيات المجمّعة إلى فئات، ثم تحلل وتأوّل وتستخرج العوامل الأقوى بتطبيق أدوات تحليل كمي ونوعي مناسبة. وفي الأخير يتم التركيز على العامل الأقوى كالفساد مثلا. فتختار الحوكمة مدخلا رئيسيا للإصلاح. ويمكن أن تكون هذه المعطيات المجمّعة هي نتيجة معلومات مأخوذة من الوقائع المادية كما يمكن أن تكون تصورات وتقييمات للفاعلين في المنظومة. وهذه التصورات يجب عدم إهمالها لأن لها دورا مؤثرا في كيفية اشتغال النظام ككل.
بعد هذا التقديم المبسّط لكيفية اختيار مدخل الإصلاح التربوي، أعود لوضع تمييزات ضرورية بين ثلاث مفاهيم تنتمي لسجل المنظومة التربوية وإصلاحها وكذلك لتنزيلها المنزلة الملائمة لكل واحد منها في استراتيجية الإصلاح التربوي.
هذه المفاهيم هي على التوالي:
- براديغمات الإصلاح، التي سميناها هنا "مداخل الإصلاح"
- المبادئ العامة للنظام التربوي
- منظومة القيم المعتمدة في النظام التربوي أو فلسفة النظام التربوي (الغايات وملامح المتخرج منه)
في الحقيقة علينا إعادة ترتيب هذه المفاهيم ترتيبا يستجيب لزاوية النظر الإجرائية.
- أول مفهوم تجب العناية به هو مفهوم قيم النظام التربوي. أي القيم التي يلتزم بها كل الفاعلين التربويين بدءا بالفاعل المؤسسي الذي هو وزارة التربية وشركائها في العملية التربوية. وكذلك القيم التي يعمل النظام التربوي على ترسيخها لدى منظوريه ولدى المتعلمين. وهي القيم التي يجب تنزيلها في المناهج التربوية.
من أين نأتي بهذه القيم؟ نأتي بها من دستور البلاد ومن فلسفة المجتمع وثقافته الأصيلة ومن إنتاجات النخب المثقفة والعلماء والمفكرين والفلاسفة التي تحوز توافقا اجتماعيا وسياسيا عاما حولها.
- بعد ذلك نأتي إلى المبادئ العامة للنظام التربوي، وهي مبادئ تتأسس في منظومة القيم التي يتبناها النظام التربوي ومن الاختيارات المؤسسية والاجتماعية، مثل مسألة إجبارية التعليم ومجانيته وضرورة توافق الزمن المدرسي مع الزمن الاجتماعي، ومثل ضمان الدولة لجودة التعليم الذي هو مبدأ مستل من الدستور كما هو الحال في الدستور التونسي.
- بعد ذلك، وبالوصول، إلى مستوى ومرحلة البناء الهندسي والتكنولوجي اللامادي للنظام التربوي يتمّ اختيار أحد مداخل الإصلاح مثلما تم شرحه سابقا.
ما قام به الائتلاف المدني في كتابه الأبيض لإعادة بناء المنظومة التربوية، بعد مرحلة تقييم المنظومة التربوية من مداخل متعددة، أمران لبّيا بطريقة ما حاجتين من حاجيات استراتيجية الإصلاح التربوي. وقد أشار إلى أمر ثالث لم تسعفه الظروف إلى إنجازه.
الأمر الأول: هو اقتراح فلسفة في الإصلاح التربوي، من حيث المرجعيات ومنظومة القيم والغايات وملامح المتخرج من المدرسة التونسية. وفي هذا تلبية للشرط الأول في وضع استراتيجية الإصلاح التربوي.
الأمر الثاني: رسم ملامح هندسة الإصلاح التربوي، من مدخلين متكاملين للإصلاح هما: المدخل الاستراتيجي ومدخل الحوكمة الرشيدة.
هذا وقد كان الائتلاف المدني يتوق ولا يزال يتوق إلى المشاركة في إنجاز أمر ثالث وهو على صلة وطيدة بعنصر مبادئ النظام التربوي العامة، وذلك من خلال اقتراح صياغة ميثاق وطني للتربية يكون محلّ تنزيل هذه المبادئ، ولكن قيادة الإصلاح التربوي اختارت بديلا عن ذلك ورشة للمبادئ العامة والتوجهات الاستراتيجية انعقدت أيام 16-17 و18 نوفمبر 2016 بالمركز الوطني للغات بضفاف البحيرة.
هذا هي إذن الرؤية العامة المتبصّرة والمخطط العام schéma لاستراتيجية الإصلاح التربوي التي اقترحها الائتلاف، تليها بعد ذلك خطوات أخرى من أهمها وضع قانون جديد للتربية، وإعداد كل النصوص الترتيبية والخطط التنفيذية المتعلقة به، في انسجام كامل مع منظومة القيم المختارة والمبادئ العامة المبلورة والمداخل الإصلاحية المعتمدة.
المراجع:
- بوبر، كارل أسطورة الإطار، ت. يمنى كريف الخولي، سلسلة عالم المعرفة، السنة 2003، العدد292.
- تروادك، برتران في كتابه علم النفس الثقافي، دار الفارابي، بيروت، ت.حكمت خوري، عن الطبعة الأصلية (بولان، باريس، 2007)، ط.1، 2009.
-Popper, k. The myth of framework, Routledge, London, 1997.
- Straus, C. L., Race et Histoire, Unesco ,1952, réédité en 1987.
-1- Voir Garaudy, R., Les promesses de L'Islam, Paris, Seuil, 1981
-2- هيغل، محاضرات في فلسفة التاريخ، الجزء الأول، العقل في التاريخ، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، بيروت، 1981.
-3- انظر مثلا كتاب إدوارد سعيد عن الاستشراق، أو انظر مقال رضوان السيد "الاستشراق والأنثروبولوجيا" في مجلة الاجتهاد، 2001.
-4- Voir jŸrgen habermas, Théorie de l’agir communicationnel, 1981, trad. Fr. 1987, rééd. Fayard, 2001 pour le t. I, Fayard, 1997 pour le t. II.
-5- ابن عاشور، أليس الصبح بقريب؟، الدار التونسية للنشر والتوزيع، 1967، ص. 59.
-6- الراغب الأصفهاني (توفي 1108م): محاضرات الأدباء و محاورات الشعراء و البلغاء.
-7- ميّز كانط بين مجالات ثلاث: 1- مجال العقل: ويكون مقنعًا من الناحية الموضوعية والذاتية على حدّ السواء. 2- مجال الإيمان: الذي يكون فيه المرء مقتنعا ذاتيا دون أن يكون الإيمان مقنعا موضوعيّا (فمن شاء فليؤمن ومن يشاء فليكفر) 3- مجال الرأي أو الظنّ: الذي لا يكون مقنعا لا ذاتيا ولا موضوعيا. كما ميّز كانط بين العقلانية العلمية، الرياضية الفيزيائية، والعقلانية الأخلاقية، التي تستدعي ما سمّاه بمسلمات العقل العملي الثلاث: وجود الله، وخلود النّفس، وحرية الإرادة.
-8- Kuhn Th., The structure of scientific révolutions, 1962. Traduction : Kuhn Th., La structure des révolutions scientifiques, Paris, Flammarion, 1970.
Second edition enlarged, 1969. Traduction : Kuhn Th., "Postface" in La structure des révolutions scientifiques, Paris, Flammarion, 1970.
-9- انظر كارل بوبر، أسطورة الإطار، ت. يمنى طريف الخولي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، عدد 292، أبريل/مايو، 2003، ص. 85.
-10- عبد اللطيف الفارابي وآخرون، سلسلة علوم التربية 9-10، دار الخطابي للطباعة والنشر، المغرب، 1994.
-11- exemples types » (exemplars) des solutions à certains problèmes,
-12- بن فاطمة، محمد، المداخل إلى الإصلاح التربوي، مجلة الفاعل التربوي،عدد 10، ديسمبر 2012.