من الفساد التربوي في الزّمن البورقيبي

Photo

تؤكّد العديد من دراسات الباحثين الذين اشتغلوا على تاريخ الإصلاحات التربوية بتونس بعد الاستقلال (سالم لبيض، 2008، علي السويّح، 2013، علي الزيدي، 2014، مصدّق الجليدي، 2016، وغيرها بما في ذلك كتاب محمد مزالي عن "نصيبه من الحقيقة") على اعتماد المؤسسة التربوية الرسمية خلال العشرية 1958-1968 بصفة كبيرة على مشروع "جان دوبياس" (المسؤول الفرنسي عن التعليم في تونس إلى حين قدوم الاستقلال) الذي "ظل سنوات طويلة طيّ الكتمان، وأنكر وجوده معظم من تولى مسؤولية سياسية في عهد بورقيبة". ومما أوصى به دوبياس اعتماد تعليم مزدوج اللغة وأكثر من ذلك استعمال اللهجة العامية بدل الفصحى في التعليم الابتدائي قراءة وكتابة وحسابا.

هذه التوصية الأخيرة المنسوبة إلى دوبياس تذكّر بموقف بورقيبة وآرائه المتعلقة باللغة العربية وبتبجيله للعامية فقد جاء في خطابه في 29 جويلية 1968 بالمنستير"أن اللغة التي يتكلمها الشعب ويفهمها كل تونسي مهما كان نصيبه من الثقافة ومهما كانت الجهة التي ينتمي إليها ومهما تباينت الجهات ليست الفصحى بل العامية لذلك من حق الأدب الشعبي والشعر الشعبي أن يحتلا مكانهما عند الشعب وأن يكونا هما أدبه وشعره".

ويذهب الباحث المختص في تاريخ التربية بالبلاد التونسية علي الزيدي في دراسته لتاريخ التعليم بالبلاد التونسية في الفترة المعاصرة، إلى أن بورقيبة قد مضى في خيار الازدواجية اللغوية والحسم في التعليم الزيتوني بتأثير من ثلاث دوافع:

- تصفية حسابات قديمة مع الزيتونيين.

- خصومته السياسية مع نخب أقطار المشرق العربي التي استهجنت ما دعا إليه في خطاب أريحا الشهير سنة 1965 من قبول بمشروع تقسيم فلسطين طبقا للقرارات الدولية.

- عمله بكل ما أوصى به الخبير الفرنسي جان دوبياس في تقريره حول إصلاح التعليم في تونس" للعشرية (1958-1968) ، فجاءت خطبه مطابقة في عديد المسائل للتوصيات التي تضمنها ذلك التقرير، ومن بينها:


أ‌- اعتماد الازدواجية اللغوية إلى حين توفر مدرسين تونسيين أكفاء يقدرون على تعويض الأجانب في تدريس المواد العلمية، وعندئذ يتم التحول إلى العربية.


ب‌- غلق جامع الزيتونة وتحويله إلى كلية شريعة تدمج في الجامعة التونسية، حيث أن دوبياس قد وصف نظام تعليم جامع الزيتونة "بأنه عريق في القدم ومكلف جدا، لكن جدواه مشكوك فيها". وهو كلام صحيح جزئيا ولكن الإصلاحات التي قام بها الشيخ الطاهر ابن عاشور وإحداثه للشعبة العصرية فيه لا تبرر هذا الحكم القاطع عليه.


ج- تفضيل اللغة العامية على الفصحى وجعلها في مرتبة ثالثة بعد الفرنسية التي قضت الاتفاقيات الثقافية مع تونس عدم اعتبارها لغة أجنبية وإنما لغة ثانية.

وللفصل في قضية "التعريب والتأصيل مع تحديث متوازن" مقابل "التحديث المجحف والازدواجية اللغوية والثقافية غير المتساوية" نورد شهادة ثمينة لأحد المواكبين عن كثب لحيثيات اختيار النهج الثاني في إصلاح 1958 وهو الأستاذ محمد مزالي.

يقول مزالي: "تشكلت سنة 1957 لجنة أوكل إليها أمر إصلاح التعليم وواجب تعميمه وتونسته من جديد وتحديثه. وكانت رؤيتان تتواجهان في صلب هذه اللجنة. إحداهما يدافع عنها الوزير الأمين الشابي والعابد مزالي الكاتب العام للوزارة، ومحمد بكير رئيس مصلحة التعليم الابتدائي، وكنت على رأيهم، وترى المحافظة على الإصلاح الذي بدأه لوسيان باي مدير التعليم العمومي في عهد الحماية ومواصلته، والذي كان قد أقرّه تحت ضغط الحزب الحرّ الدّستوري الجديد والاتحاد العام التونسي للشغل، وذلك بتعريب التعليم من السنة الأولى إلى السنة الرابعة، بما في ذلك الحساب. والثانية يدافع عنها محمود المسعدي، رئيس مصلحة التعليم الثانوي وعدد من الوزراء الذين كانوا يرون، بدعوى الحداثة والخروج من التخلّف، التّراجع عن المكاسب التي تمّ الحصول عليها من سلطات الحماية واختيار ثنائية لغويّة غير متساوية، تكون فيها اللّغة العربيّة مادّة لتدريس علوم الدّين والنحو والصّرف وكذلك تفسير النّصوص...المشرقيّة. أمّا باقي المواد من حساب وعلوم طبيعيّة وتاريخ وجغرافيا، فتُدرّس باللّغة الفرنسيّة.
وعند تحكيم رئيس الجمهوريّة كانت الغلبة للرّؤية الثّانية. ونتيجة لذلك وقع تعيين المسعدي وزيرا للتربية القوميّة في ماي 1958".

ويعبّر مزالي عن موقفه من هذا القرار متبرّما: "...لم أكن موافقا لهذا الاختيار الّذي تمّ لاعتقادي بأن أيّ مشروع في المجال البيداغوجي يتوقّف أوّلا على استشارة المعلّمين والأساتذة، ويجب ثانيا أن يكون وفيّا لمقوّمات الشّعب التونسي الحضاريّة، أي بالخصوص العروبة والإسلام. وكنت في ذلك منسجما مع الأستاذ الأمين الشّابّي منذ أيّام النّضال النقابي والوطني" (محمد مزالي، نصيبي من الحقيقة، ط. 1، دار الشروق، القاهرة، 2007، ص. 278.).

ولا يخفي مزالي نقده الشديد للنهج الذي اتبعه المسعدي في الإصلاح التربوي الذي جاءت نتائجه "كارثية" بعد سنوات من التطبيق، بعبارة مزالي نفسه. ومما جاء في هذا النقد اللاذع قوله: "وعوضا عن ههذه السياسة التعليمية المتوازنة الأصيلة، اندفع المسعدي، بلا هوادة، في عملية "تمدرس" محمومة، لا تخلو من مغالاة. فكان مخططه العشري للتعليم الذي وضعه- في الحقيقة- خبير فرنسي هو السيّد دابياس وجماعة من المتفقدين الفرنسيين" (نفسه).

وبخصوص تقييم تجربة المسعدي المدعومة من الرئيس بورقيبة من دون تحفّظ على ما يبدو، فقد أفاد الوزير السابق مزالي بما يلي: "وبدأت الشروخ تظهر في بناء المسعدي إلى الحدّ الذي دعا الرئيس بورقيبة إلى تكوين لجنة وطنية لتقييم "عشرية المسعدي"[الكارثة، كما نعتها مزالي نقلا عن الشعور العام إزاءها في تلك الفترة] وانتقد [بورقيبة] "إصلاحه" في خطاب على العموم"(ص. 282)(نفسه) وهو ما أدّى إلى إقالة المسعدي وتسمية أحمد بن صالح مكانه.

هذه نبذة فقط على "المعجزة التربوية" في العهد البورقيبي، ومع ذلك توجد مكتسبات وتحققت أهداف، منها التونسة الجزئية للتعليم ومنها تخريج كوادر لتسيير الدولة والمرفق العام ومنها رفع كبير للأمية وتنوير عدد من العقول...الخ.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات