قبل الشروع في تطارح المسألتين المذكورتين أعلاه، أنبّه إلى كوني سأتجرّد من شيطاني السياسي (سأقول أعوذ بالله من شيطان السياسة وأسأل الله الفهم والكياسة) وسأضرب صفحا عن حسابات بعض السياسيين في طرحهم للمسألتين في هذا الظرف بالذات وفي هذا التوقيت بالذات، وسأتغاضى عن مخططاتهم وأطماعهم في كسب الأرصدة الانتخابية النسوية والأرصدة المالية العالمية، وسأتعامل مع الموضوعين في حدّ ذاتهما، بكلّ "طيبة" المفكر والباحث وتجرّده وتنزهه عن الخلفيات والحسابات السياسية.
أولا-مسألة المساواة بين الجنسين في الميراث:
أذكّر بداية بأن مسألة الإرث ليست مسألة دينية في جوهرها ولكنها مسألة اجتماعية واقتصادية. ولكن الدين قال فيها كلمته في نص شرعي قطعي الورود وهو عند جمهور العلماء (أو بإجماعهم) قطعي الدلالة أيضا. والحكم الذي تضمّنه النص (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين: النساء/11) هو في اعتقادي الحكم الأصوب في هذه المسألة ضمن النظام الاجتماعي القائم زمن نزول الوحي وضمن منظومة قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج في ذلك الزمن. وبلغة علماء أصول الفقه، إن المناط متحقق بالكامل للحكم الشرعي في ذلك الحين، وهذا المناط هو ما سبق ذكره، أي النظام الاجتماعي ونظام علاقات الإنتاج المهيمنة والأدوار الاجتماعية السائدة. أما الآن، فإني أتساءل إن كانت هنالك حاجة لتنقيح المناط (إعادة النظر فيه وفي الحكم المتعلق به) بحكم التغير الكبير في النظام الاجتماعي (لم يعد نظاما قبليا أبويا) وفي منظومة علاقات الإنتاج (لم تعد قائمة على نمط الإنتاج الزراعي والرعوي وعلى بقاء المرأة في البيت وخروج الرجل للعمل وانحصار واجب الإنفاق عمليا على الرجل)؟
هذا، إذا طرحنا المسألة في مستوى هذه الحالة الخاصة فقط التي يوصي فيها الشرع للذكر بضعف نصيب الأنثى من الميراث، لكن إذا طرحنا المسألة من منظور أشمل، فوجب عندئذ التذكير بأن المرأة في الفقه الإسلامي وبمقتضى أحكام وقواعد الشريعة الإسلامية لا ترث نصف ما يرثه الرجل إلا في أربع حالات، بينما ترث مقدار ما يرثه الرجل في ثلاثين حالة وترث أكثر من الرجل في ما لا يقل عن عشر حالات. وهنا نطرح مشكلة خطيرة وهي ضرورة التعامل مع مسألة الميراث الشرعي بما هو منظومة متكاملة العناصر ومنسجمة المكونات ومتعددة الحالات. وهذا ما يقودنا إلى طرح السؤال التالي: هل يمكن المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة في كافة الحالات، بما في ذلك في الحالات التي من المفترض أن تنال فيها نصيبا أوفر من الرجل (10 حالات) أم تساوى مع الرجل في الميراث فقط في الحالات الأربع التي تنال فيها نصف ما يرثه الرجل، إلى جانب الحالات الثلاثين التي يكون نصيبها فيها مثل نصيب الرجل، مع الإبقاء على تفوق نصيبها من الميراث في الحالات العشر المعلومة لدى جمهور الفقهاء؟
أرى أن هنالك حاجة إلى طرح هذه المسألة ومناقشتها بصفة معمقة من قبل علماء الفقه والقانون وعلماء الاجتماع معا، بعيدا عن منطق المزايدات والمماحكات الإيديولوجية والأحكام الماقبلية.
ثانيا: بخصوص زواج التونسية من غير المسلم
لدينا أربعة مراجع قانونية متفاوتة الأهمية تخص هذه المسألة:
1- الفصل 5 من مجلة الأحوال الشخصية التونسية (1956)، الذي ينص على "وجوب خلوّ كل من الزوجين من الموانع الشرعية". أي أن هذا النص قد سكت عن ديانة كل زوج، ولكنه فتح باب التأويل للقضاء في عبارة "الموانع الشرعية". حيث يمكن فهم صفة "الشرعية" بالقانونية فقط، كما يمكن فهمها إلى جانب ذلك بالشريعة الإسلامية.
2- الفصل 14 من مجلة الأحوال الشخصية الذي يضبط موانع الزوجية، ويقسمها إلى قسمين: مؤبّدة ومؤقّتة، ولا يوجد فيهما معا ما يمنع زواج التونسية المسلمة من غير المسلم.
3- منشور وزير العدل (المؤرخ في 5 نوفمبر 1973) الذي يمنع منع ضباط الحالة المدنية وعدول الإشهاد من إبرام عقود زواج مسلمات بغير المسلمين معتبرا إياه إجراء غير قانوني. ولا يجوز ذلك الزواج إلا في صورة ثبوت إشهار الأجنبي إسلامه لدى مفتي الجمهورية.
4- القانون الأجنبي الذي يبيح للتونسية المسلمة في البلاد الأجنبية (فرنسا مثلا) الزواج من غير المسلم خارج المؤسسات الديبلوماسية التي تعود بالسيادة للدولة التونسية (السفارة مثلا).
نفهم مما تقدّم أن رئيس الجمهورية إذا ما أراد التقدم بمشروع قانون يبيح زواج التونسية المسلمة من غير المسلم، فإن له أن يكتفي بطلب إلغاء مفعول منشور وزير العدل المؤرخ في 5 نوفمر 1973. وهذا أمر قد يكون يسيرا قانونيا وإجرائيا، وقد لا يتطلب المرور بمصادقة مجلس النواب، لأنه لا يتعلق بقانون وإنما بمجرد إلغاء منشور وزاري. لكن الحرج يظل مع ذلك قائما في المجتمع وفي عقلية التونسيين الذين يقدسون قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بايمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن الى الكفار لا هنّ حل لهم ولا هم يحلّون لهن واتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن اذا أتيتموهن اجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما انفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم" (الممتحنة: 10).
وفي رأيي الخاص (المنسجم هذه المرّة مع فهم الفقهاء للمسألة)، أعتقد أن هذه القضية لها علاقة بالمسألة التربوية وبمسألة التنشئة الاجتماعية، حيث إن الأبناء عادة ما يكونون على دين آبائهم لا أمهاتهم. وإذا ما تذكرنا، فضلا عن الموقف الشرعي من المسألة، أن الدستور التونسي نفسه ينص في فصله التاسع والثلاثين على ضرورة ترسيخ الناشئة في هويتهم العربية الإسلامية، فإن هنالك بالفعل مشكلا قائما في الهوية التي سيتشربها أبناء الأم التونسية المسلمة.