قرأتُ كثيرا من وجهات النظر المحترمة في موضوع قطر. وهي جهات نظر مختلفة حول قطر. وشدّتني وجهة نظر عبّر عنها كثيرون رغم اختلاف مواقعهم ومواقفهم. ويمكن تلخيصها في أنّ قطر لا تخرج عن وضع ممالك القطران في الخليج العربي وأثر انعكاس التحوّل في القيادة الأمريكيّة من أوباما إلى ترامب عليها، أو التحوّل من "خيار الديمقراطية المبيّئة" في مواجهة تيار الثورة والمواطنة الاجتماعيّة ( أطروحة توافق الإسلام والديمقراطيّة ودفع الإسلام السياسي إلى أن يكون أحد شروط الديمقراطيّة المؤطّرة)، إلى سياسة الجمهوريين "نسخة ترامب" الأقرب إلى المنوال القومي الفاشي المستعيد لسطوة المال والقوّة ولا إنسانيّة الحلفاء ( روسيا) ووحشية العملاء ( النموذج الوهابي المدوعش).
فوجهة النظر التي أشرتُ إليها تتلخّص تقريبا في أنّ ما تعيشه دول مجلس التعاون الخليجي وانفجار الأزمة القطريّة وتفاعلاتها السريعة هو نتيجة لهذا "التحوّل" في السياسة الأمريكيّة ( التحوّل في السياسة الأمريكيّة بهذه السرعة بحدّ ذاته ليس مسلّمة)، ويضيف البعض أبعادا أخرى ذاتيّة بالتذكير بمعطى الانتصار/الهزيمة.
والمقصود حرب المحاور التقليديّة بأدوات جديدة لم تضع بعد أوزارها، حتّى نعرف المنتصر من المنهزم. وإن كان المنهزم هو المدينة العربيّة التي تمّت دعوشتها وتطييفها. وهو ما يكفي ليجعل منها أطلالا…فالموصل وحلب والرقّة وتعز وعدن وسائر المدن العربيّة المدمّرة لا تختلف في شيء عن المدينة الأوروبيّة ) برلين، لندن، ستاينغراد…) غداة الحرب العالميّة الثانيّة.
وجهة النظر هذه كليّة، لذلك تجتهد في أن تحيط بالموضوع، ولكنّها تهمل كثيرا من الأسئلة. وسأكتفي بما أراه أهمّها.
المدافعون عن قطر يقولون إنّ قطر تستهدف لأنّها وقفت مع المقاومة وانحازت للثورة في تونس ومصر وليبيا واليمن في تلك الأيام المشهودة ( نقلت تجمعات مليونية مباشرة من ميادين تونس ومصر واليمن ليبيا، بالنداء نفسه: الشعب يريد إسقاط النظام، الشعب يريد تحرير فلسطين).
سؤالي: لماذا تدعم القيادة القطريّة المقاومة في لبنان؟؟ ( نقل خطاب التحرير في 25 أيّار2000، واستقبال أمير قطر بطلا للمقاومة في الجنوب) وتقود الجزيرة حرب تمّوز لحظة بلحظة ؟؟( كان الجميع يكتم أنفاسه مع كل تقرير وكانت الجزيرة في الخنادق مع مقاتلي حزب الله) ..هل يبقى من مجال للمناورة والتقيّة هنا؟؟ فالمواجهة مع العدوّ الحقيقي: الكيان الغاصب. إنّها معركة بلا أقنعة. ولا مجال فيها للمجاز.
وإنما هو الخطاب الحقيقي عاريا من كلّ تورية أو كناية.
لا يستطيع أن يجيب عن هذا السؤال إلا " الفكر الشبّيحي" أوما شابهه من الأنساق المغلقة. لأنّ هذا الوعي الشقي لن يتردّد أصحابُه في اتهام من سيقفون يوما على أسوار القدس محررين الأرض والإنسان من الكيان الصهيوني من أنّهم "عملاء للكيان الصهيوني" …المنهار…هههه
لماذا تسند قطر المقاومة في حربها مع العدوّ؟
لماذا تسند قطر المقاومة الفلسطينيّة حماس؟ وتقود الجزيرة معركتي غزّة، بوجه مكشوف؟ وتستقبل الدوحة قيادة حماس؟
هذا ما لا يمكن أن يكون بأمر من الولايات المتحدة…!!!!!... وكيف لقطر الإمارة الصغيرة الغارقة في القطران أن تتخذ مثل هذا القرار السيادي الاستراتيجي؟؟؟
ثمّ لماذا تختار أن تقف قطر إلى جانب الثورة بلا شروط؟ لماذا تختار دون غيرها أن تدعم الحشود المواجهة للاستبداد العربي المعروف بارتباطاته الأمريكيّة والصهيونيّة ؟ لماذا لم تجرؤ على هذا الكويت أو البحرين أو الإمارات، إذا كان في الأمر مناورة وتقيّة وخضوعا لأجندة الآخرين؟
وإنّه لا معنى لطرح هذا السؤال على آل سعود.
لا نقلّل من قيمة التحليل الكلي وما قام عليه من وجهات نظر. ولكن هناك مستويات في الموضوع لا تجد تفسيرها إلا في مفردات الشخصيّة ورجل السياسة وعالمه الخاص وهواجسه وأحلام طفولته ومنوال التربية الذي خضع له وشخصيّته وعلاقته بثقافة أهله وبعقده وبأحداث دون غيرها من التاريخ المشترك…وهي مفردات قد لا تقبل العقلنة وتبدو جزئيّة ولكنها قد تكون هي الحاسمة….هكذا يغمرنا بل ويحاصرنا سؤال التاريخ مجددا…
في " السياسي" تكمن جلّ الأسرار…
في كتاب " الأدب والثورة" ييقف تروتسكي عند لحظة من لحظات الثورة البوولشفيّة الحاسمة: حشود العمّال في مواجهة الحرس القيصري المدجّج بالأسلحة…لحظة كأنّها خارج التاريخ…وتساءل تروتسكي: أين يوجد التاريخ؟ هل هو هنا أم هناك؟….
إن أطلق الحرس النار سيكون للتاريخ وجهة، وإن لم يُطلقوا سيكون له وجهة أخرى…وأطلقت النار وأخذ التاريخ وجهته…
التاريخ ليس ملكا لأحد…هو يجتهد أن يكون ملك نفسه…وهو وحده يعرف من هو داخله ومن هو خارجه…
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون..