في أنّ أَحَبّ الأعمال أدْوَمُها وإنْ قلّ ...أو في ترتيب علاقة الجزئي بالكلّي

Photo

أصداء توسّع مقاطعة بعض الخضر وبعض الموادّ في السوق دفعتني إلى الكتابة حول هذا الموضوع وجدوى المقاطعة.

وقد كان صدى المقاطعة بلغني من خلال الاتصال بالأهل والأصدقاء والمعارف، وهناك إجماع على أنّ الأمر في توسّع، وإن كان محدودا. وردّة الفعل هذه استجابة طبيعيّة على ضغط معيشي ومقدرة شرائيّة في تدهور سريع.

وأنا أهمّ بالكتابة في الموضوع، حضرتني الردود الممكنة، وبمجرّد نشر النص، انثال ما توقّعته من تفاعلات، ولا سيّما وجهة النظر التي تذكّرك جادّةً بأنّ المقاطعة هي "الجزء" الذي " يُخفي" الكل" ( الاستعارة المستهلكة: الشجرة التي تخفي الغابة). ويُشعرك الناصح بأنّك أقرب إلى أن تكون "موضوعا للشفقة"، من خلال انهماكك في "الجزئي" ** وعدم وعيك بـ"الكلّي" ** الذي هو تارة "السياسات والاختيارات" وطورا "السيستام"، وأحينا أخرى هو "منظومة الحكم" العاجزة عن مواجهة الأزمة الماليّة الاقتصاديّة. بل ويُريك "المولعون بالكلّي" بأنّ الأمر يمتدّ إلى "صندوق النهب الدولي"، فتمرّ من البصلة والطماطمة وقرن الفلفل الأخضر إلى كريستين لاغارد براسها "زي كعبة عفص"…

وخلاصة الأمر: بديلُ مقاطعة الفلفل والطماطم هو الثورة على كلّ هذا!! وفسّخ وعاود.

في كل هذا نصيب من الصحة، غير أنّ الخطأ ليس في الانطلاق من الجزئي، وليس الصواب في الانطلاق من الكلّي ( في هذا السياق يتجسّدان في الفساد الصغير والفساد الكبير). فقد يكون الانطلاق من الكلّي ولكن نبقى في تعميمات عن السيستام ومنظومة الحكم، والمافيا ودورها، والتبعيّة وأثرها، دون علاقة تذكر بمعاناة الناس اليوميّة. وقد يكون الانطلاق من الجزئي انغماسا في مفردات اليومي وإهمالا للأسباب العميقة.

في تقديري، الأمر يتعلّق بمسألة الوعي، وتحديدا الوعي بعلاقة الجزئي بالكلّي، أو هو الوعي الذي يُريني "في موضوع الطماطم والفلفل" خيوط السيستام وملامح المنظومة وتأثير الصناديق الدوليّة باعتبارها أذرع السوق العالمي والاقتصاد المعولم. وهو الوعي الذي يُريني في سلوك السيستام والمنظومة أنّ "موضوع الطماطم والفلفل" يمكن أن يكون سبيلا إلى مواجهة الأسباب الرئيسية، ولو بعد حين.

ذكّرني مثل هذا بما كان من حديث بيني وبين أحدهم وكنّا نتوجّه يوم 24 ديسمبر 2010 إلى مقرّ الاتحاد العام التونسي للشغل بمدنين لمساندة أهلنا في سيدي بوزيد، بعد احتراق الشهيد محمد البوعزيزي، وما كان من رد فعل في مدينة سيدي بوزيد والبلدات التي حولها. دار بيننا النقاش نفسه، وكان للرأي المولع بالكلّي حضوره: ما أثَرُ احتراق شاب دمّرته البطالة وتحرّكت بعض البلدات والمدن المجاورة غيظا؟ سينتهي كل شيء، وسيستفيد نظام بن علي من كلّ هذا ليشدّد قبضته، ويمضي قدما لاستحقاقات 2014.

والخلاصة: ما هكذا يواجه نظام استبدادي مثل نظام بن علي. وكان الرأي المقابل يعتمد على الحدس لا أكثر: صحيح أنّٰ احتراق الفتى يمثّٰل حدثا جزئيا، ولكن هناك شيء ما غير عادي، ولا يُعرف ماهو.

بعد الهروب، واشتعال المجال العربي بنداء الحريّة والكرامة، وتساقط حكّام، واضطراب العالم بدأ الحديث عن أثر الفراشة. وأثر الفراشة ليس إلا كشفا لعلاقة الجزئي بالكلّي، ولسريان الجزئي في دروب الكلّي دربا دربا حتى يقطعه طولا وعرضا، ويتماهى فيه فيصبح إيّاه. وفي هذا السياق بالضبط نفهم حديث النبي الكريم في : " أنّ العبد لَيَتكَلّم بالكلمة من رضوان الله لا يُلقي لها بالاً يرفعه الله بها في الجنة درجات، وإنّ العبد لَيَتَكَلّم بالكلمة من سخط الله لا يُلقي لها بالاً تهْوِي به في النار سبعين خريفاً"…أثر الكلمة …أثر الفراشة…

ومن الوعي العميق بأنّ الجزئي هو الوجه الآخر للكلّي، اعتبار أقرب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلّ. ومن هذا الوعي "الدوام ينقب الرخام"…

** الجزئي والكلّي مفهومان من مفاهيم "الفلسفة الكليّة"، أخذناهما هنا بمعنى الظاهرة العامة ومكوناتها لا بمعنى "الفعلي" و"الحقيقي".

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات