تصعيد نوعي من القاعدة الأستاذية، في تحركها الوطني بالعاصمة، فهو تصعيد في اتجاهات مختلفة : في اتجاه الحكومة (حكومة التعليمات، حسب الشعارات) ووزير التربية ( يا وزير الشُعَبْ/هاهي جاتك النّخَبْ)، وفي اتجاه البرلمان ( التقاعد استحقاق/يا عصابة السرَّاق)، واتجاه المركزية النقابيّة ( هيئة إدارية /حق موش مزية). والجديد المعلن هو التوتر مع قيادة الاتحاد.
هذا القطاع يمثّٰل حالة مختلفة في اتحاد الشغل، فقد كان "الفصيل القطاعي" الوحيد تقريبا الذي ربط ربطا وثيقا بين مطالب القطاع ومواجهة الدكتاتورية بما نظّمه من وقفات وإضرابات، في ظروف الحصار الأمني وتجنّد المركزية النقابيّة لخدمة "سياسات بن علي البائسة"، وقيامها على "فضيحة المناولة"، وتورط بعضها في الفساد ورهن الذمة.
وكان للقطاع دور بارز في الثورة في المركز والجهات أمام انسحاب قيادة الاتحاد وترك المبادرة للجهات وفرارها إلى اللاموقف. وقف القطاع، والحقيقة وقف قلة من مناضليه في وجه الاستبداد ، حين عزّ الوقوف.
هذا القطاع يمثّٰل القوة الحية المتبقية والمالكة لإرادتها من المنظمة الشغيلة، وكان يمكن للقيادة النقابيّة أن تراهن عليها في إعادة بناء موقف اجتماعي وسياسي متمفصل مع المسار الجديد الذي فتحته الثورة، ولكن طبيعتها وارتباطاتها القديمة والجديدة كانت مانعا من ذلك. فقد ساهمت مسارات متعاقبة وأطوار مثيرة من تاريخ البلاد وتاريخها في جعلها جزءا من النظام السياسي، وصارت بعد الثورة، في أدائها ومواقفها مما عرفته البلاد من استحقاقات وهزات، غير بعيدة عن السيستام.
تقف قيادة القطاع على مفترق طرق، فهي بين أن تواصل الاستثمار في القطاع وتصريف جانب من نضالاته في المجد الشخصي والفئوي ولحساب المركزية النقابيّة التي بدت محدودة ومترددة. فهي تقدم رجْلاً ( التلويح بالترشح للانتخابات التشريعية وربما الرئاسية) وتؤخّٰر أخرى مستعيدة ماضيها( تكريم من ثبت فساده وخدمته لبن علي من قيادتها السابقة). وبين أن تنطلق بالقطاع نحو أهداف ثلاثة فيها العاجل والآجل:
- جرّ الوزارة إلى التفاوض لتحقيق ما أمكن من المطالب دون التضحية بالسنة الدراسية، والسعي الفاعل إلى كسب التلميذ والولي إلى صفّها، ويشهد الشارع اليوم بهذا الإمكان.
- بناء التضامن القطاعي الفعّال لرصّ صفوف القاعدة الأستاذية العريضة واستثمار تنوعها السياسي وتجنيبها ما يشق المشهد من تجاذبات عنيفة وصهر رهاناتها المختلفة ( الشخصي منها والفئوي) في مشترك نضالي قطاعي على قاعدة المطالب القاعدية والشعبية لاستعادة الدور الوطني الذي لعبه القطاع في الثورة.
- تركيز برنامجها النضالي على "بناء المدرسة الجديدة" وجعل الإصلاح الهيكلي والشامل للتعليم عنوانها الخاص والمهمة الأكثر تعبيرا عنها. وبذلك تكون حلقة متينة من حلقات الإصلاح ومقدمة لإعادة بناء جامعة المستقبل جامعة تنتج المعرفة والقيمة المُضافة. وعندها سيمثل هذان المساران الطريق الأصدق إلى تأسيس الديمقراطية وأهداف أوسع الفئات الاجتماعية.
القطاع من القوى الفاعلة التي لم يصبها ما أصاب عديد القوى من ترهل وتفسّخ في السنوات الثمانية ، وهي، من جهة وجودها الهيكلي ودورها أمام مآلين :
- تأسيس موقف داخل المنظمة الشغيلة يكون منطلقا لإصلاح عميق يعيد بناء المنظمة ودورها، ويبدو هذا المآل ضعيف الشروط في السياق الحالي.
- التدرج نحو الاستقلالية ، إذ أنّٰ استحالة التوفيق بين الموقف القطاعي والعلاقة بالمركزية، تجعل من "الاستقلال الميداني" واقعا، وقد تدفع نحو التفكير في الاستقلال الهيكلي. وحينها لن يكون اتحاد الشغل كما هو قبل استقلال القطاع الهيكلي عنه. ولن يكون أمام الحكومة من يتوسط لها وقد يتعمد الخطأ في ترجمة مطالب القطاع بلغته الخاصة، فتكون في مواجهة القطاع بعنفوانه المتصاعد.
والمآلان شبه مشروطين بتجاوز الاختلاف حول الموقف من قيادة القطاع المتوتر بين الريبة التي تصل إلى حد الشيطنة وبين الولاء المطلق. فالقطاع قادر من خلال نظامه الداخلي وما ترسخ داخله من آليات ديمقراطية على تخطي المشكلة.
أساتذة التعليم الثانوي قوة قطاعية جبارة مرشحة لتلعب دورا اجتماعيا وسياسيا عجزت عنه كثير من مكونات المشهد السياسي في الحكم ومحيطه، وقادرة إذا توفرت لها قيادات فذة استوعبت اللحظة بأن تكون لها مساهمة في بناء "المشترك الوطني" الفريضة الغائبة.