الاستثناء القطري التركي

Photo

من وجهة نظر الإسلام السياسي وصراع الأصوليات في المجال العربي

كتبنا عن الأصوليات في المجال العربي، وهي أصوليات عديدة، بل إنّ الأصوليّة تكاد تسم الفكر العربي بمرجعياته الإسلامية والقوميّة والليبراليّة.ومن خاصيّة الأصوليّة أنّها تجتهد في أن تتكلّم باسم الأصل في مرحلة أولى، رغم اشتراكها فيه مع غيرها ، ثم تمرّ إلى مرحلة النيابة عنه والكلام باسمه.

وتبينّا في المجال العربي ثلاث أصوليات أساسّية متصارعة:

الصهيونيّة، والوهابيّٰة والخمينيّة.

الصهيونيّة في علاقتها بالأصل اليهودي، والوهابيّة في علاقتها بالأصل السني والخمينيّة في علاقتها بالأصل الإمامي.

وإذا كانت العلاقة بالصهيونيّة قد توضّحت لارتباطها بالحركات العنصريّة التي ظهرت مع الدولة - الأمة وبالظاهرة الاستعماريّة الاستيطانيّة، فإنّ العلاقة بالوهابيّة شابها كثير من الالتباس، لما كان من تقاطع بين الوهابيّة وبدايات الإصلاح المحليّ، قبل الانتباه إلى ما يحدث في ضفة المتوسط الشماليّٰة. كما شاب العلاقة بالخمينيّة أيضا كثير من الالتباس لما كان بينها وبين فكرة الثورة من تمفصل. فقد كان الخميني زعيما إسلاميا ينفض عن الفكر الإمامي ما كبّله من "ا نتظار"، فينوب الفقيه العادل عن الإمام الغائب.

واجهت الثورة في المجال العربي السببين الأساسيين ( الاستبداد والاحتلال) اللذين يمنعان بناء كيانه السياسي مثلما هو حال المجالين التركي والإيراني . لذلك كان شعار : الشعب يريدإسقاط النظام، وكان شعار: الشعب يريد تحرير فلسطين. وبعد 2011 انضاف الإرهاب إلى الاحتلال والاستبداد لمنع بناء الكيان ، فاكتمل المثلّث : اغتصاب/انقلاب/استبداد.

وإلى جانب هذه الأصوليات الثلاث ، كان هناك ظاهرة الإسلام السياسي، ومثلما كان لهذه الظاهرة علاقة بالصراع ضد الكيان الصهيوني، كان لها علاقة بالصراع ضدّ الاستبداد الممثل أساسا في النظام السياسي العربي أحد ثمار الدولة الغنائمية المسمّاة وطنيّٰة.

وظاهرة الإسلام السياسي ظاهرة تاريخيّة ، مثلما لها بداية لها نهاية. وإذا كانت بدايتها تدشينا لـ"خطاب سياسي" يقطع مع "الخطاب الشريعي" الذي وسم "الإصلاح الأوّل" ( الوهابيّة، والسنوسيّة) ، ويستفيد من "الخطاب النهضوي " في "الإصلاح الثاني"( الأفغاني، عبده، رشيد رضا) ، فإن نهايتها تمثّل بلوغا لأعلى مراحلها "مرحلة العدالة والتنمية"، ومعها يحل الإسلام السياسي في هويٰةّ أخرى لا نراها خارج الهوية المواطنيّة الاجتماعيّة، وهي المرحلة التي تتأسس فيها الديمقراطيّة على أنقاض نظام الاستبداد العربي.

ويكون لنا مقياس دقيق نقيس به المرحلة وخصائصها: فيكون تأسيس الديمقراطيّة دليلا على بلوغ الإسلام السياسي مرحلة العدالة والتنمية. ويكون تعطّل تأسيسها وتأخّره دليلا على أنّ الإسلام السياسي لم يبلغ المرحلة المذكورة بسبب وجود عوائق بنيويّة لم ينفع معها الفصل بين الدعوي والسياسي مثلما هو الحال في تونس( حركة النهضة).

العوائق التي تعترض الإسلام السياسي في المجال لبلوغ مرحلة العدالة والتنمية عوائق ذاتيّة و أخرى موضوعيّة. وسنغضّ الطرف عن الذاتيّة وأهمها العجز عن التحرّر التام من الخطاب الشريعي، وسنكتفي من العوائق الموضوعيّة بالأصوليّات الثلاث: الصهيونيّة والوهابيّة والخمينيّة.

هذه الأصوليات الثلاث اشتركت في في مناهضتها لثورة المجال العربي. فالكيان الصهيوني الذي يفتخر بأنّ الديمقراطيّة الوحيدة في بحر الاستبداد العربي تعرف أنّ اكتشاف الوعي العربي للعلاقة العضوية بين المقاومة والمواطنة سيكون مقدمة لزوالها، وهو بذلك يلخّص علاقتنا بالغرب الديمقراطي الذي استعمرنا ويلومنا تخلّفنا ولكنّه لا يريد لنا ان نخرج من استبدادانا.

وأمّا الوهابيّة فقد كان لها الفضل في تهشيم أولى أساسات الثورة في مصر. وكان لابد من تهشيمها في مصر لأنّ بلوغها مصر يعني، في عرف الاستراتيجيا، أنّ الثورة صارت عربيّة. وليس من المصادفة ان يكون الاسلام السياسي قاعدة هذه التجربة ورافعتها السياسيّة.

كما كان للوهابية دور كبير في تمويل وتسليح الجماعات التكفيرية في العراق والشام.
وأمّا الخمينيّة فقد كان فضلها في افتعال تناقض بين الثورة والمقاومة في سورية، ووقوفها مثل السعودية الى جانب نظام الاستبداد العربي . وهو في حقيقته تقابل بين المقاومة العضوية التي تحد شروطها في في بيئتها الحاضنة وبين المقاومة الوظيفية التي تجد شروط بقائها وحتى انتصارها الجزئي في محيطها وفي نظام ولاية الفقيه في المجال الإيراني.

كان من أفضال الخمينيّة تطييف ثلاث دول عربية وتهشيمها هي العراق( بالتعاون مع الامريكان) وسورية (بالتعاون مع الروس) واليمن ( بالتعاون مع أقلية طائفية، وبقايا استبداد).
التقت هذه الأصوليات الثلاث على الأرض السورية، واجتهدت في ألاّ يكون الاسلام السياسي الذي حظي بالتفويض في كل ما جرى من انتخابات ديمقراطية حرة وفّر شروطها الانتفاض المواطني الاجتماعي، شرطا لتأسيس الديمقراطية في المجال العربي. وكانت هناك ظروف دوليّة تتعلق بمصالح تقليدية وأخرى حادثة عملت على اجتثاث كل الروافد التي يمكن أن تسنُد مسيرة الاسلام السياسي نحو تأسيس الديمقراطية في المجال العربي. وتمثّل تركيا باعتبارها الإسلام السياسي الذي بلغ مرحلة العدالة والتنمية وأسس ديمقراطيته الخاصة، وقطر باعتبارها سندا ماليّا وإعلاميّا للمقاومة والثورة، رافدين أساسييّن للثورة والمقاومة والمواطنة حتّى وإن كانت إحداهما لم تدّع يوما أنّها ديمقراطيّة. وهذا ما جعل منها داعما أساسيّا لأحد أهم شروط تأسيس الديمقراطيّة في المجال العربي (الإسلام السياسي) وفي تعبيرته الأخص :

الإخوان المسلون المتّهمة بالإرهاب من قبل الصهاينة العرب )خليط من الأصوليّة الوهاّبية، والسيسي ممثلا للعسكريتاريا المصريّة المشوّهة، ، وغلمان إمارات النفط). وهذا ما يفسّر استهداف تركيا بالانقلاب وقطر بالاستئصال. وهو ما يفسّر تضامنهما والتقاءهما اليسير، . وقد مثّلت الدولتان، قبل الثورة، الاستثناء في المجال العربي والإسلامي.

الوهابيّة والخمينيّة أصوليّتان تتدرّعان بالخطاب الشريعي في صيغتيه التكفيريّة والطائفيّة، وهذا ما يجعلهما مقارنة بظاهرة الإسلام السياسي عامل جذب إلى الوراء وردّة فكريّة، وعنوان تخلّف في المنطقة، ومانعا من تأسيس الحريّة والمواطنة.

والإسلام السياسي تأثّر بالأصوليّتين سلبا وإيجابا، فقد كان لجوء قيادات الإخوان في ستينيّات القرن الماضي إلى السعوديّة خلال الصراع الإخواني الناصري من أهمّ الأسباب التي لوّنت خطابهم بـ"الشريعي" حتى اقتربوا من مطلب تطبيق الشريعة. وكان للثورة الإسلاميّة في إيران تأثيرها العميق على الإخوان والإسلام السياسي من جهة البعد الكفاحي والثورة على المظالم باسم الدين ونصرة المستضعفين والانحياز للمحرومين ومناهضة الاستكبار المحلّي والعالمي.

للإسلام السياسي عوائقه التي تمنع من أن يكون أهم شروط تأسيس الديمقراطيّة والمواطنة الاجتماعيّة. وقد بدأ هذا الدور ينحسر في المجال العربي إلى درجة صار فيها الإسلام السياسي في بعض الأقطار طرفا في تسويات سياسيّة تعيد إنتاج نظام الاستبداد في شكل مافيات ولوبيات للمال متنفّذة ومستظلّة بديمقراطيّة تمثيليّة مؤطّرة غير قادرة على تأسيس الحريّة والعدالة الاجتماعيّة. غير أنّ ما كان من انقلاب فاشل على تركيا السنة الفارطة وما يعرفه مجلس التعاون الخليجي يشير إلى عودة الاسلام السياسي إلى الصدارة طرفا في صراع دولي غير منفصل عن المصالح الاستعماريّة القديمة. وهو صراع يمكن أن يقترب حثيثا من استحقاقات الثورة والمقاومة والمواطنة الاجتماعيّة.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات