طفلي الّذي مات

طفلي الّذي لا يشبهني،توأمي الّذي بقي طفلا و لم تؤثّر فيه السّنوات،لنا نفس الجينات،هو حافظ عليها كما هي على فطرتها بينما تعرّضت الّتي لديّ للطّفرات.

طفلي بهيّ الطّلعة ،جميل الوجه كفلقة البدر،واسع العينين تشعّان براءة ،مورّد الوجنتين،لطيف ظريف ضحوك كثير النّشاط.

طفلي كان يلاعبني، يلاحق بيديه الصغيرتين سبّابتي و ينفجر ضحكا عندما ادغدغه ليمسك رأسي و يطبطب بلطف و هو يلامس تفاصيل وجهي و تلك التجاعيد التي بدأت تتشكّل كخطوط متجعّدة ترسم للحزن حكايات.

طفلي كنت أخفيه بين أضلعي في غرفة مرتّبة منسيّة من رفّ الذّاكرة، أحرسه، أحفظه و أحميه من شظايا الفوضى المتناثرة،و أمنع عنه الأوساخ و الغبار و اللّوثات و أصدّ عنه سيل الرّداءة و التّفاهات.

كنت له حصنا و كنت له تلك المصفاة و كان لي ملجأ آمنا و كهفا أفرّ إليه من عبث الحياة.

كنت أتسلّل إلى غرفته كلّ مساء ، اداعبه .أرقص له،أهدهده و أسرد له بعض الحكايات،لأنصرف على أطراف أصابعي و قد غلبه النّعاس و انعزل في غرفتي فأقرأ حينا و اسمع حينا و أشاهد أحيانا فصلا آخر من فصول المأساة.

هل تعوّدنا تلك المشاهد الّتي تذاع على الهواء و تنقل مباشرة كمباريات الكرة المنفوخة بالهواء؟ مشاهد القتل و الدّمار و الدّم و الأشلاء و حفلات الشّواء و كتل اللّحم و الرّؤوس و الأطراف و هي تجمع في أكياس؟

لو وقعت مظلمة تحكيمية في مباراة كرة أو أصيب لاعب عمدا لكان طوفان من الغوغاء قد خرج مندّدا مطالبا بالعدل و اقامة الحدّ!


• ماذا لو كان طفلي بجانبي و يشاهد ما أشاهد؟

• ماذا سأجيبه إن سألني لماذا يقتلون الأطفال يا أبي؟

• لماذا يقتلونهم صحبة آبائهم و أمّهاتهم و أقاربهم و جيرانهم؟

• و ما ذنب قططهم و كلابهم و حمامهم و دجاجهم و خرفانهم و حصانهم؟

• ما ذنب اشجارهم و أزهارهم؟

• ماذا لو سألني ماذا فعلت لأجلهم يا أبي؟

كنت مطمئنّا أنّ طفلي لا يشاهد ما أشاهد لكنّه كان يفعل ذلك خلسة منذ أحد عشر شهرا ، كان يأتي حبوا و يعود جريا و كان يكبر كلّ مرّة حتّى تجاوزني في السّنوات، هرم طفلي و شاخ،هزل حتّى صار كتلة من العظام و هجر الشراب و الطّعام و امتنع عن الكلام و ذبل و انطفأت شعلته و هاهو يحتضر و أنا اعصر له من دمعي بعض القطرات.

أبكي طفلي الّذي مات و أبكيهم و أبكي نفسي و أبكي عجزي وأنا الّذي صرت لا أقدر على أن أقف أمام المرآة، كلّما فعلت ذلك أتفل على وجهي..مرّات..و مرّات.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات