اقبل إليّ منتشيا و قد انفرجت أساريره و هو يضحك من جميع مناطقه و جلس أمامي دون استئذان مومئا برأسه إلى الشّاشة المعلّقة على حائط المقهى ورائي، لم التفت، كانت اصوات النقنقة و الصّرير و الصّهيل و النّهيق و الفحيح و النّباح المنبعثة من الجهاز تلوّث سمعي و تغنيني عن المشاهدة حتّى من باب الفضول و حبّ الاطّلاع، ناولته سيجارة و وضعت بين شفتيّ أخرى و أشرت للنّادل بأن يأتي له بما اعتاده من مشروب فيسارع بإخراج نقوده مصرّا بأنّه اليوم هو من سيدفع ، "مبروك" هذا اليوم المبارك!
شكرته و قد أحالتني لقطته إلى استرجاع فلم ذكرياتي منذ سنتين حين فعلت ما فعل و دفعت معلوم مشروب كلّ مرتادي المقهى "مبروك" ذاك اليوم المبارك ثمّ ارتدت مطعما صحبة عائلتي و بعض الأصدقاء لنحتفل بالنّصر العظيم و عدنا إلى منزلنا و نحن نهتف و نصفًق و يدي تضغط من حين لآخر على منبّه سيّارتي، كنّا وحيدين نجوب المدينة في لحظة فرح و تحدّ و جنون لترمقنا أعين بعض السّاهرين ، على أرصفة المقاهي و من شرفات المنازل.
قطع صديقي شرودي و هو يسألني:" ألم تر تلك الحشود و ذاك الطّوفان البشري؟أما زلت مصرّا على التّغريد خارج السّرب؟"
أجبته بعد سحبة عميقة من سيجارتي صفاء و رشفة من قهوتي السّوداء: " و ماذا كنت تنتظر ؟؟أعدادا أقلّ بعد كلّ التحشيد و التسهيلات و الترغيب و الترهيب، حافلات بعضها بالمجان لا يتمّ تعطيلها و منعها من الوصول كما في تظاهرة 26 سبتمبر الماضي، عدم اغلاق منافذ العاصمة، دعاية اعلامية فجّة و استغلال لكلّ امكانيات الدّولة و مشاركة لبعض النقابات الأمنية، ثمّ كم عدد هؤلاء ؟ هل تستطيع عدّهم؟ و من نحن الآن ، مرتادي هذا المقهى و باقي المقاهي و القابعين في منازلهم و المشتغلين و المشتغلات في حقولهم و تلك الجموع الّي خرجت في الأسبوع الماضي و الّتي ستخرج في الأسبوع القادم؟
هل ستعدّ الرّؤوس كغنم في اسطبل أو ستقيّم حدّة الضّجيج و الصّراخ ؟
كنت سأسترسل لأحدّثه أن لا حاكما محترما يأتي بالصندوق يحتاج لحشود مناشدة أو مناصرة أو مساندة و أنّ الحشود في الغالب تكون معارضة و أنّ ما يحدث أسقطنا في حضيض الحضيض و جعلنا مسخرة يتندّر بها بعد أن كنّا استثناء يضرب به المثل في صحاري التصحّر و التخلّف و التسلّط، و أنّ قوّة المجتمعات في تنوّعها و في حكمة ادارتها للاختلافات الّتي لا بدّ منها و أنّ لا فيصل سوى الصندوق، حينما رنّ هاتفي ليسألني أخي من ألمانيا عن حالي بعد أن سمع بأنّ زوّار الفجر عادوا لممارساتهم القديمة و اعتقلوا الصحفي عامر عيّاد لأجل قصيدة أحمد مطر الّتي ألقاها بعد أن أعادوا الى السّجن النّائب الأديب عبد اللّطيف العلوي الّذي ما يزال ينتظر الرّئيس لكي يعيد اليه كتبه الّتي أهداها اليه ذات مرّة!
ثمّ ليرنّ مرّة أخرى ليكون أخي الآخر على الخطّ ليهاتفني و يطمئنّ عليّ خاتما مكالمته بأنّه أمام ما يشاهد صار يخجل من كونه تونسيا بعد أن كان يعلنها بكلّ اعتزاز و افتخار.
هي أبشع أنواع الدكتاتوريات الّتي تطلّ برأسها المتوحّش القبيح من باب الشعبوية الفضّة الصّفيقة، و الّتي تتمدّد في الفراغ و تنشر تفريخاتها الخبيثة، دكتاتورية أبشع من تلك الّتي عشناها سابقا،دكتاتورية لن تستثني أحدا حتّى من شجّعها و يشجّعها الآن ، أفيقوا يرحمكم اللّه قبل أن يفوت الأوان.
موعدنا ان لم يطل علينا زوّار الفجر يوم الأحد القادم إن شاء اللّه.