اعتذر الرّجل الّذي أنشد القرآن على نقرات القانون و أطنب في الاعتذار و مازالت حملات التّشهير تطاله بلا شفقة ،و صياط الجلّادين تنهال عليه من كلّ صوب ، فيا من كنتم خير أمّة أخرجت للنّاس أليس الاعتذار من شيم الكبار؟
كان أولى على من برمج و بثّ المقطع على تلفزة عمومية تتمعّش من جيوبنا ،لا أن تعتذر فقط بل أن يستقيل المسؤولون بسبب ماجرى،و هم يعلمون ما سينجرّ عن فعلتهم و الّتي هي قد تكون مقصودة للإلهاء و الاستفزاز و استنفار جمهور يسهل استثارته و توجيهه.
_ربّ ضارّة نافعة:
لا أشكّ في صدق نوايا الغالبيّة العظمى ممًن تداعوا للدّفاع عن قدسيّة النصّ القرآني و هم يعتقدون أنّها انتهكت لكنّني كفرد اتساءل هل انتهكت إلى ذاك الحدّ الّذي صوّره بعض حرّاس القداسة و العقيدة في الدّاخل و الخارج إلى درجة المطالبة بالتّكفير و إقامة الحدّ؟
هل أخطأ الرّجل في نطق المفردات أو غيّر المعنى؟
أنشدت بعض آيات القرآن فيما سبق و كان ذلك دون عزف و لكن ربّ ضارّة نافعة، نقرات القانون جعلت الآية تطرق مسامع البعض و تستفزّ عواطفهم الجيّاشة فهل ستستثير عقولهم؟
هل سيسعون لأن يكونوا خير أمّة أخرجت للنّاس و يوفّرون شروط تحقّق ذلك بالدّعوة إلى المعروف و النّهي عن المنكر؟
أليست تلك دعوة لتحمّل المسؤولية في تغيير الواقع و المشاركة في الحياة العامّة؟
أين هؤلاء من الدّعوة إلى المعروف و النّهي على المنكر و فيهم من ينصر ظالما و يحرّم مساءلة وليّ الأمر أو أن يكون له رأي في الشّأن العام؟
أين هؤلاء من انتهاك قدسيّة الروح البشرية في غزّة بالإبادة و في جميع صحاري التسلّط من المحيط إلى الخليج بالاستباحة و الاستبداد؟
جميلة هذه الصّدمة الّتي قد تدفعنا إلى اعادة قراءة ما نزل من القرآن الكريم،فلنقرأه كما أمرنا بأوّل أمر أنزل فيه،باسم ربّنا الّذي خلق،بالموضوعية الّتي تجب لا بذواتنا و كما نحب.
_هل نحن الآن خير أمّة أخرجت للنّاس؟
كنّا كذلك و لا شكّ و التّاريخ يشهد حينما كنّا من كتّابه لأنّنا كنّا نقرأ و انحططنا و هوينا الى القاع و صرنا هوامش بلا فائدة على ديباجة التاريخ حين تخلّينا عن القراءة.
اعجاز القرآن و قدسيّته و برهان كونه وحيا يتجاوز العقل النّسبي و صالح لكلّ مكان و زمان أنّ النّص مطلق ثابت و المعنى نسبيّ متغيّر.
أمرنا بالقراءة،و هو أمّ الأوامر،قراءة منتجة تبحث عن المعنى و يترسّب من خلالها لذواتنا فهما نظريا نسعى إلى جعله تطبيقات عملية تتجلّى في سلوكنا و حياتنا و مجتمعاتنا.
قراءة حيّة تنتج حياة،لا قراءة ميّتة خشبية متكلّسة أو قراءة ببّاغاوات؟
ليس المطلوب أن نقرأ ما تفهمه عقولهم،ففهمهم نسبيّ خارج دائرة المقدّس و قابل للنّقد و للنّقاش.
من المطلوب أن تكون لنا قراءتنا و فهمنا حسب معطيات مكاننا و زماننا ، لا أن نكتفي بما فهمه السّلف فتلك اجتهاداته و إضافاته الحميدة فأين اجتهاداتنا و اضافاتنا الّتي سنتركها للخلف؟
و هذا لا يعني أن نحاول اكتشاف العجلة من جديد فعبث فعل ذلك و واجب التعامل مع التّراث كإرث معرفي يمكن تنقيته و استخلاص منه ما يفيد لحظتنا الرّاهنة و البناء عليه، لتكون لنا قراءتنا و مساهمتنا المستجيبة لاحتياجاتنا و المجيبة للأسئلة الملحّة الّتي يطرحها عصرنا.
و أعتقد أنّ بداية انحطاطنا تعود إلى لحظة مطاردة ابن رشد و حرقه لكتبه و تمزيق المغول لكتب بغداد و رميها في دجلة و الفرات لتمتزج بالدّماء و منذ تلك الفترة صرنا أمّة في غالبيتها لا تقرأ.
جميلة هذه الصّدفة الّتي جعلتنا نستحضر آية ممّا نزل من القرآن و الأجمل أن نفهمها و نعمل على تحقّقها بتوفير شروطها و تلك معادلة لم تحل بعد بدليل واقع الأمّة الّتي تعيش اقصى درجات انحطاطها، و قد يكون بداية حلّ الشفرة في العودة الى أوّل ما نزل من القرآن و تطبيق الأمر الربّاني بالقراءة المنتجة المستنيرة النّاجعة .