أنا الآن تحت الرّكام تحاصرني من الجهات الستّ أطنان من الحجارة و الاسمنت المسلّح و الغبار و مئات من الآلات المنزلية و الأثاث و كثير من الجثت و الجرحى و ربّما بعض المحاصرين مثلي تحت الأنقاض ينتظرون فرق الإنقاذ.
لا شيء يؤلمني،لا نزيف و لا كدمات و لا جروح و لا ندوب، يمكنني أن أتحسّس جسدي قطعة قطعة و استعمل هاتفي الجوّال و أن أتقلّب ذات اليمين و ذات الشّمال و أن اتنفّس.
أقطن في الطّابق السّفلي من عمارة من عشر طوابق تهاوت في لحظة لتتحوّل إلى جبل من الرّكام،لا ادري ما الّذي جعل الأشياء تتساقط بشكل جعلها تحميني من أيّ أذى و تبني لي غرفتي هذه الّتي بالكاد تسع جسدي و تمكّن صدري من الشّهيق و الزّفير و يداي بمجال للحركة،أطارد فكرة أنّني في قبر و أنّها النّهاية الّتي كنت ألهث دوما لتلافيها و أتشبّث بخيط دقيق كخيط العنكبوت بأنّني سأنجو ككلّ مرّة من موت يتربّصني .
العناية ستعتني بي كما اعتنت بي مرّات و مرّات تماما كيوم مولدي حينما ماتت أمّي أثناء المخاض و يئس الأطبّاء من شفائي و نزعوا عنّي اجهزة التنفّس الاصطناعي ليتسلّمني أبي و يضمّني بحرقة جعلتني أسعل ثمّ اتنفّس، في السّادسة من عمري كنت ألهو مع أقراني فيدفعني أحدهم و تجدني منبطحا وسط الطّريق لتمرّ فوقي شاحنة ضخمة دون أن يمسّني سوء ، و في سنّ العاشرة تركني أبي وحيدا بعد أن تعرّضنا لحادث قاتل و نحن في طريقنا لزيارة قبر أمّي،استغرب حينها الجميع كيف نجوت منه.
أذكر جيّدا ملامح وجه أمّي كان ابي يصفها لي بكلّ تفاصيلها و هي لم تغب لحظة عن مخياله إلى درجة أنّي اعتقدت أنّها تسكنه.
في سنّ العشرين تخاصمت مع صديق بعد أن باح لي بأنّه يضاجع صديقتي كما في أفلام الإباحة و أنّها تفعل ذلك مع العديدين حينما تثمل على عكس ما كنت أتمثّلها ملاكا طاهرا ،تشابكنا فدفعني ليرتطم رأسي بمزهرية في ركن المقهى و أدخل في غيبوبة استفقت منها بعد أسبوع على صوت الطّبيب و هو يهمس:"لقد نجوت بأعجوبة".
منذ خمس سنوات صدمتني سيّارة لتكسر ثلاثة من أضلعي و في السّنة الماضية أصبت بالتهاب رئوي حاد نتيجة للكوفيد تطلّب وضعي تحت جهاز التنفّس الاصطناعي.
أنا كما قطّي الّذي انتشلته من الشّارع لأعتني به و اتّخذه رفيقا و صديقا و أشكوه همّ يومي فيغمض عينيه تارة و يموء تارة أخرى لاسترسل في سرد حكاياتي التافهة تفاهة ما نعيشه من تفاهة ليتركني و قد أشعلت سيجارتي العاشرة و جرعت كأسي السّادسةويذهب يتسكّع في الطّريق المقفرة باحثا عن قطّة تؤنسه .
أنا كما قطّي كنت من حين لآخر أبحث عن قطّة،لم اتزوّج و لا أفكّر في الارتباط بتاتا و لا يمكنني البتّة تحمّل مسؤولية أو تبعات ذلك أو إضافة أثقال أخرى تقصم ظهري أو أكون سببا في ايجاد بائس جديد مثلي في عالم بائس مزدحم بما فيه الكفاية صار يلفظ أحياءه و يرسم لهم النّهاية حتّى قبل البداية!
أكره الحديث عن الحبّ و روايات الحبّ و اعتقد أنّه كذبة كبرى نتوهّمها لا وجود لها الّا في الكتب،احساس رسخ لديّ منذ شجاري مع صديقي عندما كشف لي حقيقة من أحببت أو اعتقدت أنّي احببت،صرن كلّهنّ مثلها باستثناء أمّي الّتي وضعتني و لم تحضنّي.
أنا كقطّي متقلّب و مزاجي الطّبع أميل إلى العزلة و ليست لي صداقات فهي تتطلّب الصّدق و هو ما لا يتوفّر لديّ أو لديهم ،أكذب حينما يتطلّب الأمر ذلك و أشي بزميلي حينما تقتضي المصلحة ذلك و ارتكب الحماقات و ارتاد الملهى و المسجد و أتقلّب بين هذا و ذاك و أحتاج في بعض الأحيان إلى بعض الأقراص لأنام بعد جولة سريعة أشاهد خلالها التلفاز و هو يتقيّأ أخبار البؤس و التّعاسة وبعد إطلالة سريعة عل مواقع التّواصل الافتراضي و هي لا تقلّ تفاهة في زمن صناعة التّفاهة ، لاستفيق على مواء قطّي و هو يطلب الغذاء،يوم جديد لا يختلف عن أمسه،لأنهض و ألهث وراء متطلّبات الحياة، نطلبها فتسلبنا الحياة.
أنا كقطّي الّذي تقول عنه عجائز القرية بأنّه ككلّ القطط له سبع أرواح،لكنّ قطّي دهسته سيّارة منذ أيّام و مات و كأنّه استنفذ آخر خرطوشة من السّبع.حزنت كما لم لم أحزن من قبل و شعرت بحرقة فراق عزيز و تألّمت تألّم من تيقّن بأنّه صار وحيدا بلا رفيق و لا مؤنس و ارتجفت حينما أحسست بأنّي قد ألقى نفس المصير بعد أن استنفذ خراطيشي الّتي وفّرتها لي العناية. منذ أيّام و أنا استعرض فلم ما مررت به في الأربعين سنة الّتي مضت و أحصي عدد المرّات الّتي نجوت فيها من موت محقّق فأجدها أقلّ من السّبعة المخيفة و ربّما يكون ما وقع بالأمس هو تمامها.
ما يطمئنني أنّني الآن لا أشكو ألما و أتنفّس، المكان ضيّق جدّا و شديد الظّلمة ،اتنفّس مع بعض اللّهجة و قلبي يخفق بشدّة و بصيص نور يتسرّب بخجل من فجوة صغيرة في حجم ثقب إبرة..و أصوات أنين و نشيج و صراخ استغاثات تطرق مسامعي من حين لآخر، تحسّست جسدي مرّة أخرى و و استعملت هاتفي الجوّال للإضاءة فأكثر ما تخيفني هي الظّلمة، قد ينطفئ بعد ساعة،ليس مهمّا ،ليس لي من اهاتف أو أعاتب، سأستغلّ ما بقي لي من وقت و من هواء أتنفّسه لترتيل بعض ما حفظته عند ارتيادي للمساجد فهي من تبعث فيّ بعض السّكينة و سأقوم بغسل نفسي و كفني و قبل ذلك سأستغلّ ما بقي من طاقة في هاتفي لأكتب:قصّة إنسان ركام تحت الرّكام.