في لحظة ثورية خارقة و أمام اعضاء البرلمان التركي يعلن الرّئيس محمود عبّاس عن نيّته التوجّه مع جميع أعضاء القيادة الفلسطينية إلى قطاع غزّة مبيّنا أنّ وجهته القادمة ستكون القدس الشّريف معقّبا بأنّ لا خيارثالث لهم فإمّا النّصر أو الشهادة ليصفّق الحضور و يقف بعضهم تقديرا لهذا الموقف التّاريخي العظيم.
هي لحظة جنون منفلتة صعدت به الى علوّ متخيّل شاهق لتهوي به إلى قاع واقعه المرير ليقول منكسرا و بمرارة:"نتبنّى المقاومة السّلمية فإمكانيتنا لا تتيح لنا أكثر من ذلك!"
لنطمئنّ و نسترجع عبّاس الّذي نعرفه، عبّاس الهزيمة و المذلّة و الانكسار،عبّاس العاشق للسّلطة حتّى و لو كانت صوريّة، عبّاس الفاسد، الخائن و السّمسار ،بعد أن أوهمنا في لحظة هذيان حنجورية أنّه تحوّل إلى شبيه للشّهيد هنية أو ربّما أصابته عدوى السّنوار!
عبّاس الّذي لا يستطيع قضاء حاجته الّا بإذن من المحتلّ يعلن أنّه سيذهب إلى غزّة بعد أربعين ألف شهيد و مائة ألف جريح و بعد كلّ تلك الابادة و الدّمار،لا و بل يضيف بأنّه سيتوجّه بعدها إلى القدس الشّريف،للّه درّك يا صلاح هذا الزمن التّعيس،لم تأخّر ظهورك إلى حدّ أن يئسنا منه؟و عمرك بعمر الاحتلال قضيته في خدمته فكافأك بكرسيّ وهميّ و بعض الفتات نظير العمالة و تكريس الهزيمة و بيع الأوهام!
عبّاس هذا هو مثال نمطي لكلّ حكّامنا،شخصية مصابة بالقطبية، متأرجحة بين واقعيّة ذليلة منكسرة مستسلمة يائسة منهزمة و تابعة تنفّذ حرفيّا ما يملي عليها المحتلّ الخارجي،و بين لحظات منفلتة من الثورية الحنجوريّة الزّائفة تهذي فيها بالشّعارات الحارّة و الجمل السّاخنة و تمارس غواية السذّج بالجمل المعلّبة المثيرة و الغامضة و الكثير من الصّراخ و الطّنطنة.
كلّ له عبّاسه! و قد يختلف عبّاس عن آخر في مدى هيمنة أحد القطبين، إذ قد تسيطر الظّاهرة الحنجوريّة فيكون عبّاس حينها متمركزا حول ذاته،مصابا بجنون العظمة و مسكونا بهوس المؤامرة ،فيغتصب المعاني السّامية و يزنا بالكلمات النبيلة الرّاقية في عمليّة طنّ حنك لتهييج و تجييش و تجحيش جمهور مخدّر مغيّب يستطيب مثل ذاك الخطاب العاطفي المزيّف و يطلب منه المزيد!
أمّا عبّاس "الواقعي" "العقلاني" "المتّزن" و المحتكم لمعطيات الممكن المحدّدة من قبل من مكّنوا له، فيمارس سلطة عقله المملاة من عقولهم ليقنع الآخرين بأن لا فائدة في استعمال عقولهم لتغيير واقع الهزيمة والانكسار و لا نجاة الّا في الخنوع و الاستسلام.
و قد نجد عبّاس هنا و عبّاس هناك،و كلاهما بنفس الضّرر، و كلّ له"عبّاسه".