عندما يقول لي صديق صحافي تونسي عريق وبارز، عاش سنوات حكم بورقيبة ثم بن علي وفرح بثورة بلاده وعلّق عليها الآمال العريضة، بأنه لم تعد له رغبة في الكتابة لأنه لم يعد يعرف بالضبط لماذا يكتب؟ ولمن يكتب؟ وما الفائدة من وراء ذلك؟ فاعلم أن الوضع سيئ جدا فعلا.
تعيش تونس منذ زهاء الشهر انسدادا سياسيا كاملا غير مسبوق، ولا أحد قادرا على تصور مخرج معيّن لأن العناد والمغالبة باتا المتحكميْن في المشهد وكل واحد من كبار مسؤولي الدولة ركب رأسه، على طريقته الخاصة، مما ينذر، لا سمح الله، بنهايات مفجعة غير معروفة.
ليس من الانصاف تحميل الجميع المسؤولية بنفس الدرجة، ولكنهم جميعا مسؤولون في النهاية عما جرى وقد يجري:
رئيس الدولة قيس سعيّد، الذي يفترض أنه الرمز والحكم عند الشدائد، تحوّل إلى عنصر توتير دائم للحياة السياسية باستمرار مواقفه المغامضة الملغّمة وعجزه عن التفاعل مع ما يقدم له من مقترحات. لقد تحول إلى ما يشبه ذلك التلميذ المشاغب العنيد الذي لا يهدأ ولا يسمح للفصل بالهدوء، بل إنه تحوّل إلى زعيم معارض لا يعجبه شيء لكنه لا يقدم شيئا. بصراحة متناهية، هذا الرجل كان يمكن أن يصلح، في أحسن الأحوال، أن يكون عضوا في المحكمة الدستورية ليس أكثر.
رئيس البرلمان راشد الغنوشي الذي لم يفهم بعد أن موقعه على رأس المؤسسة التشريعية لم يكن قرارا حكيما وأن تطلّعه، الواضح أحيانا والخفي أحيانا أخرى، لمنصب رئاسة الجمهورية سيكون الطامة الكبرى له ولحركته وللبلاد جميعا. ثم إن حركة «النهضة» التي يتزعمها لا يمكن لها أن تستمر في تلك اللعبة السمجة التي تزعم بأنها ليست في الحكم مع أنها هي نواته الصلبة منذ أكثر من عشر سنوات. إنها تتحمل وزر الحصيلة الكارثية لهذه الفترة، وبالتالي آن لها أن تعترف بذلك وتعدّل عقارب ساعتها قبل فوات الأوان.
بصراحة متناهية، هذا الرجل كان يمكن أن يبقى، في أحسن الأحوال، «مرجعية» تاريخية لحركته ليس أكثر.
رئيس الحكومة هشام مشيشي الذي وجد نفسه، فجأة وبدون مقدمات، في منصب الشخصية الأولى في السلطة التنفيذية. رمى به الرئيس في اليمّ ثم قال له «إياك إياك أن تبتلَّ بالماء». هو رجل إدارة بالأساس وليس ذنبه أن أصبح في موقع يفرض عليه أن يبحث عن سند برلماني كما يجري بداهة مع أي حكومة، فلما فعل بات يُعيّر بذلك !! ربما ما كان عليه أن يقبل، منذ البداية، بأن يوضع في مأزق كهذا يُجبر فيه على الاختيار بين أن يكون أداة طيّعة لرئيس دولة يريد أن يحكم من خلاله، وبين أن يمسك قراره بيده فيبدو متمردا عليه.
بصراحة متناهية، هذا الرجل كان يمكن أن يكون، في أحسن الأحوال، رئيس مجلس إدارة لشركة حكومية أو خاصة ليس أكثر.
لكن هل معنى ذلك أن هذا الثالوث وحده هو المسؤول عن الانسداد الحالي؟ لا أبدا فغيره كثير:
هناك مجموعة من الأحزاب، اليسارية والقومية، مع حزب آخر يمثل أردأ ما يمكن أن يبقى من إرث بن علي، ما انفكت تملأ الدنيا صراخا للتنديد بحركة «النهضة» وبكامل «المنظومة السياسية» التي جاءت بعد الثورة لكنها تبدو عاجزة على تحويل ذلك إلى ثقل شعبي حقيقي يقف وراءها ويمكن أن يتحوّل إلى ثقل انتخابي يغيّر موازين القوى. هذه الأحزاب تبدو أميل إلى تخريب ما هو قائم حاليا فقط والاختفاء وراء الرئيس وتأييده مع أنها تعلم جيدا أنه لا يشكل، لا هو ولا هم، بديلا مقنعا، إلى الآن على الأقل.
للأسف لا توجد قناعة حقيقية لدى هذه الأحزاب، ولدى قطاعات واسعة من الناس كذلك، أن من جاء بصناديق الاقتراع لا يمكن أن يذهب سوى بصناديق الاقتراع وهو ما ينطبق على الرئيس وعلى الأحزاب الممثلة في البرلمان، وبالتالي فلا بد من الصبر على كل هؤلاء حتى الموعد الانتخابي المقبل سواء جاء في موعده أو كان سابقا لأوانه إذا ما استدعت الضرورة ذلك وفق الدستور والقانون. التذمر مما هو قائم يجب ألا يغذي، مهما بلغ من درجات السوء، نوازع المغامرة والفوضى والانقلاب على المؤسسات والاختيار الشعبي الحر والنزيه، نقطة إلى السطر.
هناك طرف آخر، لا مفر من الحديث عنه لأن له دورا هاما في السلم الاجتماعي والأهلي في البلاد لكنه لا يبدو للأسف الشديد على قدر هذه المسؤولية الجسيمة. إنه «الاتحاد العام التونسي للشغل» النقابة العمالية الأكبر والأعرق فقد تحوّل هذا الاتحاد لفاعل سياسي مؤثر دون أن تدري في معظم الأحيان كيف يعمل ولمصلحة من وضمن أي تصوّر أو رؤية. صحيح أن قيادته لم تدخر جهدا للتقدم بمقترحات للخروج من الأزمة الحالية لكنها لم تجد الجرأة بعد لمصارحة الناس بضرورة الكف عن الاضرابات التي دمّرت الاقتصاد المنهك والمتهاوي.
لا شك بأن الوضع في تونس أعقد من كل ما سبق، فهناك بالتأكيد الإعلام ومراكز القوى الفاسدة والتدخل الأجنبي من أكثر من جهة، وغير ذلك لكن هذا كله لا يعفي الناس العاديين والشعب الكريم من المسؤولية عن كثير مما جرى ويجري، وهذه قصة طويلة أخرى….