وأخيرا خرج الرئيس قيس سعيّد مساء الاثنين ليتحدث عبر التلفزيون عن انزعاجه الشديد من كل من تحدث مؤخرا عن مرضه، مستخفا ومتوعدا كل من روّج لذلك. يأتي هذا الظهور بعد أيام لم يكن هناك فيها من حديث سوى غياب الرئيس منذ بداية رمضان عن كل نشاط أو تصريح، وسط أنباء غير مؤكدة عن مرضه الشديد وإقامته في المستشفى.
لم يكن هذا الحديث سوى بين الناس ومواقع التواصل، لا سيما «فيسبوك» منبر التونسيين الأبرز، مقابل غياب كامل لأي بيان رسمي أو تصريح حول هذا الموضوع تأكيدا أو تفنيدا أو توضيحا.
أن لا يصدر أي بيان من القصر الرئاسي طوال أكثر من عشرة أيام تفسيره الوحيد، عدا الرغبة في التكتم بطبيعة الحال، هو أن قيس سعيّد شخصيا هو من كان يدبّج كل البيانات الصادرة عنه، وهو ما يتجلى في أسلوب الكتابة ومزاجها ومفرداتها، وحين غاب الرجل، لسبب لم يفصح عنه بوضوح في لقائه مع رئيسة حكومته مساء أمس الأول، لم يتقدّم أحد لصياغة أي بيان مهما كان مقتضبا.
وطوال أيام، لم تنطق رئيسة الحكومة أو أي من وزرائها بكلمة واحدة. حتى حين سئل وزير الصحة بإلحاح شديد عن الموضوع من قبل الصحافيين فضّل التزام الصمت بالكامل مما غذى بقوة أجواء الإشاعات المختلفة، وسط صمت مطبق من كل وسائل الإعلام الوطنية. وهنا تدخل الإعلام الأجنبي لتصبح بعض الصحف الفرنسية هي من يتحدث في هذا الشأن حتى أن وكالة أنباء إيطالية هي من أخبرت التونسيين أن رئيسهم «أصيب بنوبة قلبية طفيفة» وأنه «سيستأنف العمل الأربعاء!! »
ليس غريبا أن يمرض الرئيس، أي رئيس، ولو بنزلة برد خفيفة أو حادة، ولكن الغريب أن يتم التعامل مع مرضه بمثل هذا التعتيم والتجاهل اللذين ساهما في تضخيم الموضوع، مع أن الرجل ليس شخصا عاديا وغيابه، المؤقت أو الدائم، له تداعياته وتعقيداته على بلد بأكمله.
في كلمته، أبدى الرئيس امتعاضه الشديد من كل من تحدث عن شغور في موقع الرئاسة، مفضلا مفردة «التعذر» المؤقت، مع أن انشغال الكثيرين بهذه القضية له وجاهته الحقيقية، بغض النظر عن صحة أو عدم صحة خبر مرض الرئيس، ذلك أن دستور الأمر الواقع الحالي الذي صاغه قيس سعيّد بنفسه أشار إلى أنه في حالة الشغور المؤقت يعوض رئيس الحكومة الرئيسَ بمرسوم رئاسي، ورئيسة الحكومة نجلاء بودن أهون بكثير جدا من أن توكل لها مهمة كهذه، أما إن كان الشغور دائما فرئيس المحكمة الدستورية هو من يعوض الرئيس وهذه المحكمة لا وجود لها حاليا!!
المعارضة، وإن التزمت الصمت طوال أيام سريان الحديث عن مرض الرئيس، لم تكن ترى الأمر، وفق ما يعرف عنها، إلا من زاوية أن ما بني على باطل فهو باطل وبالتالي فكل ما فعله سعيّد منذ انقلابه على الدستور في 25 يوليو/ تموز ساقط بالكامل، ولا مفر من العودة إلى الشرعية متمثلة في دستور 2014 والبدء من هناك، وهو أمر ليس بالسهل أبدا إذا لم تسنده وترعاه مؤسسات الدولة الصلبة، كما تسمى، من جيش وأمن وهذا أمر غير مؤكد ولا مضمون.
المشكل أن الأمور، لو قدر لها أن تسير وفق السيناريو الأول أو الثاني، ما كان لها أصلا أن تسير بسلاسة معقولة دون موافقة دولية، بشكل أو بآخر، في وقت لم تبد فيه أبدا السياسة الداخلية التونسية مستباحة، بشكل مفضوح على الأقل، كما هي اليوم، خاصة من ثلاثي، لا أحد يدري ما الذي جمعه، ويتمثل في كل من الجزائر وفرنسا وإيطاليا، رغم امتعاض الرئيس في كلمته الأخيرة من تعامل بعض العالم مع بلاده كـ«ملف» دون أن يحدد من المعني بكلامه بالضبط، مكتفيا برفع شعارات السيادة والاستقلال.
لقد وقف الإعلام التونسي طوال أكثر من عشرة أيام في موقف شلل غير مسبوق منذ 2011 مما فتح الباب لأمرين أسوأ من بعض: التكهنات في مواقع التواصل بمختلف شطحاتها في هذا الاتجاه أو ذاك، أو بعض الأخبار والمقالات في وسائل إعلام أجنبية. كما أن الإعلام الوطني لم يكن وحده في حيرة فقد وقع في نفس الدوّامة مراسلو مختلف وسائل الإعلام العربية والدولية في تونس إذ كيف لهم أن يخوضوا في مثل هذا الموضوع الدقيق في غياب أي تصريح أو بيان رسمي، مهما كان نوعه.
لقد كشفت قضية مرض الرئيس، أيا كان هذا المرض، هشاشة مخيفة في الدولة ومؤسساتها ومعارضتها وشعبها الذي لم يعامل بأي حد أدنى من الاحترام، ولا حتى كرعية كما طالب أحدهم ساخطا.
كان ظهور الرئيس فرصة له لبعض المراجعات والدروس والشروع في نفس تصالحي ما، لكن مواصلته في نهج التهجم والتخوين تعني أن مرحلة ما بعد مرضه لن تختلف في شيء عما قبلها، مع أن الحدث كان فرصة للتدارك وعودة بعض الوعي، ولكن…الله غالب.