ليس صدفة أن يُطلق على برلمان تونس الجديد وصف «برلمان قيس سعيّد» فهو من هندس قانون انتخابه منفردا، على غرار صياغته دستورا جديدا للبلاد وُصف هو الآخر بأنه «دستور قيس سعيّد». وليس صدفة كذلك أن تخرج منذ الاجتماع الأول لهذا البرلمان أمس الأول من المؤشرات ما يكفي لمعرفة طبيعته وما ينتظر التونسيين.
الجلسة الافتتاحية ترأسها أكبر الأعضاء سنا فاكتشف الجميع أن الرجل كان مسؤولا محليا في حزب بن علي المنحل قبل أن يلتحق بحزب «نداء تونس» لقايد السبسي المندثر، كما أن الرئيس الجديد المنتخب لهذا البرلمان لم يكن هو الآخر بعيدا عن نفس حزب السلطة ما قبل الثورة، ما يعني أن لا جديد حقيقة في «الطائفة» التي وقفت مع قيس سعيّد وانخرطت في مساره. وقد كشفت مواقع تونسية بأن ما لا يقل عن 50 نائبا، وربما أكثر من ذلك، من أعضاء البرلمان الــ 161 (لم ينتخب منهم إلى حد الآن سوى 154) هم كوادر مختلفة المستويات من حزب قايد السبسي،
بل ومن بين من صنفوا وفق انتماءاتهم الحزبية السابقة اتضح وجود نائبين كانا من حركة «النهضة»!! وبالتالي فهذا المسار لا يتمتع بأي حصانة من الانتهازيين والوصولين، وهو بالتأكيد ليس مسار «الوطنيين الصادقين» ولا «النزيهين النظيفين» بدليل ما يعرف عن الكثير منهم وإخراج أحد النواب الجدد من الجلسة بعد أدائه اليمين من قبل عون أمن بدعوى أنه ملاحق في إحدى القضايا!!
هذا المشهد السياسي المشوّش، والمريب كذلك، هو الذي دفع الرئيس قيس سعيّد أن يقول قبل يومين من هذه الجلسة واستباقا لها إنه لا مجال لتكوين كتل نيابية في هذا البرلمان مع أن الدستور، الذي خاطه هو بنفسه ولنفسه، نصّ على قيام الكتل مع منع التنقل بينها ليس إلا. وبناء على ما سبق لا مجال أبدا للحديث اليوم عن هذا البرلمان بمنطق موالاة أو معارضة، ولا بأي منطق آخر له علاقة بتلوينات حزبية أو سياسية، مع أن البرلمانات في عهد الحبيب بورقيبة لم تخل، زمن الحزب الواحد، من أصوات مختلفة مثل عزوز الرباعي والحبيب بولعراس وأحمد شطور وغيرهم، كما أن البرلمان، زمن التعددية الحزبية الشكلية لسنوات حكم زين العابدين بن علي، لم تغب عنه أصوات تقدم نفسها على أنها معارضة تكوّنت وقتها من «حركة الديمقراطيين الاشتراكيين» و«حزب الوحدة الشعبية» و«حركة التجديد» (الحزب الشيوعي سابقا) في حين يحظر اليوم تعريف نواب اليوم وفق هويتهم الحزبية لأنهم انتخبوا بناء على النظام الفردي ليس إلا.
الجلسة الافتتاحية سجلت حدثا غير مسبوق، حتى في عقود حكم بورقيبة وبن علي، وتتمثل في منع الصحافيين من حضورها والاكتفاء فقط بالتلفزيون ووكالة الأنباء الرسميين فبقي زهاء الستين صحافيا في الخارج، بين تونسيين وأجانب، وما من تفسير لذلك سوى الخوف من فضائح متوقعة تقضي نهائيا على صورة برلمان مطعون في شرعيته وسمعته قبل حتى أن ينطلق. إجراء نددت به نقابة الصحافيين التونسيين معتبرة إياه «سابقة خطيرة (…) تفتح الباب على مصراعيه أمام سياسات التعتيم وتكميم الأفواه» فضلا عن أنه لم يعد متاحا نقل جلسات البرلمان على الهواء كما كان معمولا به من قبل.
أما أخطر ما ولّده البرلمان الجديد فهو صراع الشرعية بين برلمان أفرزته انتخابات 2019، بناء على دستور 2014، وما زالت المعارضة تعتبره البرلمان الشرعي رغم حلّه من قبل سعيّد على غير الأصول الدستورية، وبين هذا البرلمان الحالي الذي جاء ضمن مسار تراه المعارضة مبنيا على باطل شكلا ومضمونا. ولهذا جاء بيان جبهة الخلاص المعارضة (تكتل أحزاب ومنظمات أبرزها حركة «النهضة» و«مواطنون ضد الانقلاب») ليقول إنها «لن تعترف بالمجلس النيابي المنبثق عن دستور انقلاب غير شرعي وانتخابات قاطعتها الأغلبية الساحقة» من الشعب. هذا وضع لم تشهده تونس المعاصرة قط وسيدخلها في دوّامة قد لا تختلف عن دوّامة الجارة ليبيا بين برلماني طبرق وطرابلس والتي استلزمت تدخلا دوليا لم يفك عقدتها إلى اليوم.
معضلة الشرعية هذه تزداد وضوحا حين يتم استحضار أن الدستور الذي أفرز هذا البرلمان الجديد لم يكن عيبه الوحيد أنه من صياغة سعيّد وحده دون غيره، بل لأن المصادقة عليه جاءت بعد استفتاء بنسبة إقبال قدرت بنحو 30٪ لا غير، فضلا عن أن نسبة المشاركة في التصويت لاختيار البرلمان لم تتجاوز 12٪ وسط مقاطعة من كل الأحزاب.
وإذا أضفنا إلى كل ما سبق أن هذا البرلمان هو أصلا بلا صلاحيات تقريبا، باعتباره لا يمنح الثقة للحكومة ولا يحق له سحبها، وليس بإمكانه كذلك مراقبة الرئيس، الذي لمشاريعه التي يقدّمها إلى البرلمان أولوية النظر، ناهيك على أنه صنف «وظيفة» وليس «سلطة» فإن هذا البرلمان لن يكون سوى خطوة أخرى ضمن «نظام سياسي اعتباطي» وهو أخطر بكثير من مجرد نظام استبدادي، وفق ما قاله الجامعي التونسي الدكتور أيمن البوغانمي.