حدث هذا صيف 1990. اجتاحت القوات العراقية الكويت فجر الثاني من أغسطس – آب وأطلق الرئيس صدام حسين سلسلة تصريحات تؤكد على محورية القضية الفلسطينية، في انتقاد قوي لتعامل العالم معها بغير ما يفعله مع غزوه جارته الجنوبية.
خطاب لقي هوى وقتها عند الكثيرين لفضحه ازدواجية معايير السياسة الدولية، وخاصة الأمريكية، لكن تناسى هؤلاء أن في ثنايا هذا الطرح إهمالا لمأساة شعب كامل وبلد انتهكت سيادته بل وأنكر وجوده كله.
كان التونسيون وقتها من بين هؤلاء الذين تحمسوا لهذا الطرح لكنهم لم يكونوا الوحيدين، وهو ما لم يفهمه أو يغفره الكويتيون فأي معنى أن يدفعوا، هم تحديدا، ثمنا فادحا ليستنتج غيرهم من العرب مثل هذه الازدواجية مع أنها كانت معلومة من السياسة الدولية بالضرورة.
انخرط التونسيون في حماسة لا حدود لها لدعم ما أقدم عليه العراق، خاصة مع تعكّر الموقف بحشد عسكري أمريكي ودولي غير مسبوق لتحرير الكويت، ولم يكن من السهل أن يجهر أي كان بموقف معاكس. كان رئيس تحرير جريدة “الصباح” اليومية الشهيرة عبد اللطيف الفراتي الوحيد تقريبا الذي تجرأ وأعرب في افتتاحية فور الغزو عن معارضة واضحة ومبدئية لاحتلال بلد وشطبه من الخارطة بمثل هذه السهولة، فيما استسهل بقية الإعلام النفخ في الأوهام.
كان مثيرا كذلك رصد مواقف قيادات عربية عديدة فضّلت، كل لاعتباراتها الخاصة، التماهي مع مثل هذه المواقف الشعبية في دولها، سواء عن قناعة أو لتجنب الاصطدام مع جمهور غاضب من سياسات القوى العظمى الظالمة. سُميت تلك الدول العربية التي تبنت مثل هذا الموقف بــ”دول الضد” مع أنه للإنصاف لا أحد من قياداتها أيّد علنا احتلال الكويت لكن مواقفها المختلفة المعارضة للخيار العسكري وللاستنجاد بالقوى العسكرية الأجنبية لإخراج العراقيين من الكويت، وغياب الصرامة في إدانة هذا الاحتلال، فُهمت على أنها كذلك، بغض النظر عن مدى الدقة.
أعجب التونسيون بموقف رئيسهم زين العابدين بن علي الذي قاطع القمة العربية في القاهرة التي أمّنت الغطاء لاستقدام القوات الأجنبية، كما أعجب الفلسطينيون بموقف ياسر عرفات والأردنيون بموقف الملك حسين واليمنيون بموقف علي عبد الله صالح وهكذا. لاحقا دفع هؤلاء ثمنا باهظا لمواقفهم وتطلّب الأمر سنوات لتجاوز مخلفات مرحلة ما زال العراق والعرب يدفعون فاتورتها إلى يومنا هذا.
لم يفكّر هؤلاء القادة في أن التحدي الحقيقي المطروح أماهم كان مجابهة شعوبهم بالموقف المبدئي الحقيقي الرافض لغزو بلد واحتلاله مهما كانت الذرائع. صحيح أن ذلك كان ذلك سيكلّفهم بلا شك اصطداما قاسيا مع مزاج عام متعاطف مع العراق، لكن ذلك هو قدر القادة الكبار الذين لا يسايرون أمزجة شعوبهم بل يصنعونها.
التاريخ حافل بأمثلة من هذا القبيل، من ذلك على سبيل المثال وحتى نبقى في تونس، موقف الزعيم الحبيب بورقيبة إبّان الحرب العالمية الثانية فقد كان التونسيون يميلون إلى تأييد ألمانيا نكاية في فرنسا المحتلة لبلدهم لكن بورقيبة دفع بقوة في اتجاه الوقوف علنا مع الحلفاء معتبرا تأييد ألمانيا النازية رهان خاسر وأن عليه أن يكون مع الجانب الصحيح من التاريخ كما يقال. لم يكن من السهل دفع الناس المعبئين ضد فرنسا إلى ذلك لكنه في النهاية وحجته كانت أنه حريص على القول للمعسكر الغربي إنه يشاركهم قيم الحرية وحق الدفاع عن النفس ورفض منطق العربدة واللجوء إلى القوة حتى يحاججهم بكل ذلك لاحقا على عكس ما سيكون عليه الموقف لو اصطف مع هتلر.
القضايا العادلة لا تخدمها أبدا الإساءة إلى الآخرين، ولا تجاهل معاناة شعب كامل لمجرد النكاية في هذا البلد أو هذه السياسة، بل يخدمها الإيمان بقيم الحرية والعدل واحترام القانون الدولي وخاصة رفض اللجوء إلى القوة وحق الشعوب في مقاومته وتقرير مصيرها بكل حرية. أن تكون أمريكا وأوروبا انتقائية وانتهازية، بل وظالمة في تعاملها مع قضايانا العربية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، لا يجعل من غزو بلد آخر ، صادف هذه المرة أنه أوكرانيا، وتدمير بنيته التحتية والدفع بنسائه وأطفاله وشيوخه إلى الفرار مسألة يمكن قبولها ناهيك عن تبريرها.
أي سقوط أخلاقي أن يقف اليوم بين بين ظهرانينا من يؤيد موسكو في عدوانها ؟! مع أنه هو نفسه من يقف منددا بالعالم الذي يخذل الفلسطينيين أمام آلة الحرب الاسرائيلي. هذا لا وصف له سوى أنه نفاق بيّن وصاحبه آخر من يحق له أن ينتقد نفاق الغرب.
المبادئ لا تتجزأ، ولا يمكن لك أن تلوّح بها صارخا ساخطا فقط عندما تكون لصالحك، ثم تدوسها إذا خالفت هواك . للعالم بلا جدال مشاكله الأخلاقية العديدة في التعامل مع قضايانا، ولكن لنا نحن أيضا مشاكلنا الأعوص من قبيل دعم بعضنا لروسيا في حربها الحالية على أوكرانيا، أما افتنان البعض الآخر برئيس مثل بوتين فكارثة أخرى يطول شرحها.