«مجنون».. هكذا وُصف الشاذلي زويتن عندما قرر عام 1974 الترشح للانتخابات الرئاسية في تونس أمام «المجاهد الأكبر» الرئيس الحبيب بورقيبة. ومع أن حجة زويتن كانت قوية على أساس أنه يلبي الشروط المطلوبة وأن بورقيبة استكمل ولاياته الرئاسية الثلاث وفقا للدستور، قبل أن يعدّله ليصبح رئيسا مدى الحياة، إلا أن تونس لم تشهد وقتها أي تنافس على منصب الرئاسة.
بعد ذلك بعشرين عاما، قرر رئيس «الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان» منصف المرزوقي الترشح لانتخابات الرئاسة في مواجهة الرئيس زين العابدين بن علي فوُصف هو الآخر بـ«الجنون» لأنه ما كان بإمكانه أن يلبي الشروط الدستورية المستحيلة للتقدم لهذا الاستحقاق الانتخابي.
الحقيقة أن وصف «المجنون» لم يكن مجانبا تماما للحقيقة لكل من وجد في نفسه الشجاعة ليتجرأ ويتقدم في مواجهة بورقيبة وبن علي الحاكمين المطلقين، ولو أن بن علي اختار ذات مرة مجموعة من الشخصيات الدمى التي رضيت أن تلعب دور «الكومبارس» كمرشحين ينافسونه على الرئاسة دون أن يحلموا بالفوز بها طبعا.
بين هذين العهدين وما يجري حاليا في تونس فرق لا يقاس ولا يقدر بثمن مع أن «الجنون» لم يختف بالكامل. «الجنون» هذه المرة أصبح أن يتقدم في البداية لانتخابات الرئاسة في تونس الأحد المقبل 97 مرشحا لم تتوفر الشروط المطلوبة إلا في 26 منهم، وأن من بين هؤلاء، هم أيضا، من كان يفترض ألا يبلغ به اعتداده بنفسه أن يقدم على خطوة من هذا القبيل. كان هذا رأي أغلب التونسيين الذي عبّروا عنه، كل بطريقته، في كل المنابر التي أتيحت لهم ثم جاءت المناظرات التلفزيونية على الهواء مباشرة أيام السبت والأحد والاثنين الماضية لتظهر فعلا كم كان التونسيون على صواب في حكمهم القاسي.
لن نذكر أيا كان بالاسم سواء ممن أبلوا بلاء حسنا في هذا الظهور الذي كان «اختبار توظيف» أكثر منه مناظرة، أو أولئك الذين كان أداؤهم متوسطا للغاية، أو الآخرين ممن ظلموا أنفسهم ظلما فادحا عندما جعلوا أنفسهم في موقع السخرية عوض موقع تقييم برامجهم ورؤاهم لتونس المستقبل.
طبعا، هذا لا يقلل في شيء أبدا من قيمة الحدث الذي سعى التلفزيون التونسي والقائمون على الإعلام وهيئة الانتخابات إلى أن يظهر في شكل مشرف ليس فقط من الناحية الفنية وإنما أيضا من ناحية الدلالة السياسية العميقة إذ تحوَّل الشعب من وضعية «المفعول به» إلى وضعية الفاعل صاحب القرار في أن يختار على بيّنة من سيصبح رئيسه، بل وأن يتمكن حتى قبل أن يضع الورقة في الصندوق، من احترام هذا والسخرية من ذاك.
كان كل الشعب التونسي جالسا يتفرج إلا هؤلاء المرشحين فقد مكثوا واقفين لأكثر من ساعتين يردون على أسئلة المقدمين المعدة سلفا والمختارة بالقرعة من بين أسئلة تقدمت بها هيئات مختلفة.
مجرد أن يمثل هؤلاء المرشحون الستة والعشرون، عدا اثنين أحدهما موقوف على ذمة قضايا فساد والآخر في الخارج هربا من نفس المصير، أمام الكاميرات في بث مباشر ليردّوا على أسئلة لم يطّلعوا عليها مسبقا، لحظة تاريخية لا تقدر بثمن. لحظة ما كان لها أن ترى النور وترفع الرأس لولا الثورة التي أطاحت ببن علي والتي جعلت الجميع يتنفس الهواء العليل للحرية، بمن فيهم حتى بعض الذين لوّثوا هواء تونس سنوات الدكتاتورية ومنهم من لم يخجل فترشح لهذه الانتخابات.
أهم ملاحظة كشفتها، بل وعرّتها، المناظرات التلفزيونية أن تونس باتت تفتقد، عموما وللأسف الشديد، إلى رجال سياسة من الوزن الثقيل، أو على الأقل من الوزن الذي يؤهلهم أن يطمحوا في أن يصبحوا يوما ما رؤساء وإن لبلد صغير مثل تونس. كثير من بين هؤلاء دفع أداؤهم إلى التساؤل المرير كيف كان بعضهم وزراء أصلا في فترة من الفترات، فما بالك أن يتنطّع منهم من بات يريد أن يصبح رئيسا مرة واحدة ؟!.
في المقابل، يوجد بين المرشحين من لم يتحمّل طوال حياته مسؤولية منصب مهما كان متواضعا يمكن للناس أن يروا فيه من خلاله كفاءته وجدارته ونظافة يده فيتوسموا فيه خيرا ليُستأمن مباشرة على المنصب الأول في الدولة. هذا فضلا عمن يمكن وصف ترشحه بالفلكلوري لأنه لم يظهر من الخصال والإقناع ما يجعل الناس تختاره عمدة في إحدى القرى النائية وليس رئيس دولة.
المناظرات رائعة ليس فقط كمبادرة لم يسبق لتونس الجديدة أن عرفتها و إنما أيضا لأنها كشفت المستور، والمعروف في غالبه، أمام الشعب كله ليرى هؤلاء على حقيقتهم وقد استخفوا بالناس لأنهم استخفوا بالمنصب.
ربما معهم حق لأن من ينظر إلى من يحكم في بعض الدول القريبة والبعيدة سيجعله يقول: ولم لا أنا؟!! لكن الناس سيكون لهم رأي آخر، فهم ليسوا بالقصّر ولا يحتاجون لأي وصاية لأنهم أثبتوا في محطات عديدة قدرة جيدة على الفرز والتمحيص والقرار… وهذه هي الديمقراطية التي علينا أن نرضى بحكم الشعب فيها مهما كان.