سألته عن أحوال تونس فأجاب: «عوامل الانفجار تتجمّع تدريجيا لكن البديل غير واضح والمعارضة مشتتة وبائسة».. هكذا أجاب صديقي الصحافي قبل أن يضيف، وكأنما يحرّك سكينا في الجرح : «المشكل أن هذا الوضع سيطول».
اختزل الجواب المشهد كله، بصراحة ومرارة، ووضع الإصبع على مفاصل الألم في جسم أنهكته خيبات السنوات الماضية فبات يبحث عن الخلاص بأي طريقة، حتى وإن كان عبر الوهم أو التمنّي. لم يعد مفيدا التوقف عند ما تعيشه تونس مع الرئيس قيس سعيّد من تخبط على كل المستويات منذ أن أمسك الرجل بكل خيوط الحكم فلم يزدها إلا تعقيدا. المفيد ربما هو التوقف عند حال المعارضة التي تواجه مشروعه، ومدى قدرتها على تغيير موازين القوى، في وقت لا يبدو فيه معظم الناس عابئا بها أو متعاطفا معها لأنها لم تترك ما يجعلهم يحنّون إلى سنوات حكمها.
ما تنفك هذه المعارضة، سواء كانت أحزابا تشكّلت في «جبهة الخلاص الوطني» (أحزاب الأغلبية المطاح بها: «النهضة» و«قلب تونس» و«ائتلاف الكرامة» مع جمعيات أبرزها «مواطنون ضد الانقلاب») أو في تنسيقية بين خمسة أحزاب يسارية وديمقراطية، تؤكد على الطابع السلمي لتحركاتها المناهضة لسعيّد وسياساته، وكذلك هو نهج أغلب منظمات المجتمع المدني، لكن المشكل الكبير أن هذه الأحزاب والمنظمات لم تثبت، إلى حد الآن على الأقل، قدرة على تعبئة شعبية واسعة يمكنها أن تشكّل ضغطا حقيقيا على الحكم، فيما بدت سياسات «الاتحاد العام التونسي للشغل» (كبرى النقابات العمالية) ومواقفه أقرب إلى المخاتلة، وحتى الانتهازية، إذ لم يُبد من الشكيمة تجاه الطعنات المتتالية لأسس الحكم الديمقراطي التي سدّدها سعيّد بلا رحمة نصفَ ما أبداه من مناكفة وتربّص تجاه حكومات سابقة، مع أنه كان مشاركا فيها بشكل أو بآخر.
العجز عن هذه التعبئة الشعبية المؤثرة لا يعود فقط إلى خلل في وزن هذه المعارضة وإنما إلى ما بدا، أيضا إلى حد الآن، من مزاج عام لا يمانع في منح قيس سعيّد «فرصة» لعلّ بعض الفرج يأتي على يديه، مؤكدا على «نظافته» مع أن ذلك غير دقيق بحكم ما جرى معه رئيسا وليس قبل توليه المنصب. ورغم أن لا مؤشرات، ولو أولية أو سريعة، لمثل هذا الأمل إلا أن ذلك لم يدفع في اتجاه أي تغيير جذري في مثل هذا المزاج المتفاوت من فئة إلى أخرى.
الصادم في ما سبق أن مثل هذا المزاج لا يبدو منتشرا بين أوساط قليلة التعليم أو متوسطته بل أيضا بين «نخبة» المجتمع من أساتذة ومحامين وأطباء وكوادر مختلفة قد لا يروق لها كثيرا كل ما يفعله سعيّد لكنها لا ترى وجاهة في التحرّك الواسع ضده، كرها بشكل خاص في أي عودة للإسلاميين إلى المشهد من جديد، حتى إن أحدهم قال بأنه مع حكمي الرئيسين الراحلين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي كنتَ تواجهُ أجهزةَ الدولة، حين تتبنى مواقف أو تحركات معارضة، بينما أنت اليوم تواجه معظم المجتمع إن كنت من معارضي سعيّد!!
قد لا يستمر هذا المزاج على حاله إذا ما اشتدت الضائقة الاقتصادية والمعيشية أكثر على الناس، المهمومين بقوتهم أكثر من أي شيء آخر، لاسيما وقد باتوا يفتقدون من الأسواق الخبز والسكر والدقيق والقهوة ويقفون في طوابير محطات البنزين، لكن ذلك لا يبدو قريبا رغم حالة التذمّر المتنامية والتي قد تصل ذروتها إذا تواصل التعثر الحكومي في الحصول على الأموال اللازمة لدفع رواتب الموظفين وضمان سير أدنى للمرافق والخدمات في ظل هذا الاستعصاء في الحصول على تمويلات دولية أو عربية ضرورية وعاجلة لن تأتي قبل اتفاق تونس مع «صندوق النقد الدولي» الذي سيزيد الوضع الاجتماعي صعوبة وتعقيدا.
ومع أهمية الظروف المعيشية في تحديد طبيعة تحركات الناس ضد الوضع الحالي خاصة مع اقتراب شهر يناير/ كانون الثاني، الموعد التاريخي طوال عقود لكل الاحتجاجات الاجتماعية الصاخبة، إلا أن ذلك يجب ألا يُغفل الإشارة الهامة للغاية عند الحديث عن المزاج العام الحالي المؤيد لسعيّد وهي أن مزاج مهادنة السلطة وإبداء الولاء لرئيسها ليس بالأمر الجديد الطارئ ولم يبرز فجأة معه تحديدا، فقد كان دائما مزاجا ثابتا عند التونسيين، فيما كانت حركات المعارضة دائما محدودة العدد والتأثير، إلى أن يتغيّر المشهد فجأة.
مع بورقيبة كان الكل يتغنى باسمه طوال ثلاثة عقود، لكنهم لم يترددوا لحظة في التهليل لبن علي الذي انقلب عليه وراحوا يمجّدونه لأكثر من عقدين، ثم فرحوا بثورة أطاحت به وتحوّل جميعهم إلى ثوريين، ومع صعود الإسلاميين إلى السلطة أطلقت اللحى وانتشر الحجاب أكثر، وقد تكون الظاهرة تراجعت قليلا الآن مع مناكفة سعيّد لهم، وحين تتغيّر المعطيات الحالية لن تجد أحدا يذكر سعيّد بكلمة خير واحدة… وهكذا الحبل على الجرّار.
«ينصر من صبح» هكذا يقول المثل التونسي.