تأبى فرنسا أن تستكمل استدارتها نحو اليمين المتطرّف بل ونراها تستيقظ فجأة وتختار اليسار ليكون الحجرة التي يتعثّر بها هذا اليمين. تعثر حال دون أن يكمل هذا اليمين ما كان يمنّي به النفس حين ظن بعد الدور الأول للانتخابات البرلمانية أنه بات على قاب قوسين أو أدنى من حكم البلد قبل أن يتبدد حلمه الأحد الماضي بعد ظهور نتائج الدور الثاني.
حين تصدر "حزب التجمع الوطني" اليميني المتطرف الجولة الأولى من الانتخابات العامة المبكرة آخر الشهر الماضي بعد حصوله على أكثر من 33 بالمئة من الأصوات، يليه تحالف "الجبهة الشعبية الجديدة" الذي شكلته أحزاب يسارية في المركز الثاني بنسبة 28 بالمئة، ثم تحالف "معا من أجل الجمهورية" الذي يتزعمه الرئيس إيمانويل ماكرون في المركز الثالث بحصوله على 20 بالمئة من الأصوات، ظن كثيرون ذلك الخطوة الأولى في طريق اكتساح أكيد لهذا اليمين المتطرف في الجولة الثانية، وفي أذهانهم زخم مفترض أعطته نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي الشهر الماضي.
ظن هؤلاء أن الطريق باتت معبّدة تقريبا نحو أغلبية لليمين المتطرف لحكم فرنسا لأول مرة وتشكيل حكومته الخالصة متناسين أن الجولة الأولى لم تحسم من السباق سوى 76 مقعدا من أصل 577 مقعدا في مجلس النواب حيث لن يٌعرف الفائزون بالمقاعد الـ501 المتبقية سوى في الجولة الثانية.
وجاءت المفاجأة التي خالفت كل التوقعات حيث تصدّر هذه المرة تحالف اليسار "الجبهة الشعبية الجديدة" متقدما على معسكر الرئيس إيمانويل ماكرون فيما اكتفى اليمين المتطرف الذي تصدر الجولة الأولى بالمركز الثالث. ومع أن الاقتراع لم يسفر عن حصول أي كتلة على غالبية مطلقة في الجمعية الوطنية ( 289مقعدا) فقد عبر تحالف اليسار عن استعداده للحكم مؤكدا امتلاكه برنامجا كاملا ومتكاملا لحكم البلاد ومعالجة معضلاتها.
ربما ما كان لمفاجأة فرنسا أن تحدث لولا تظافر عاملين أساسيين أثبتا أن المجتمع السياسي الحي قادر دائما على اجتراح طرق الخلاص:
أولا: هبة شعبية كبيرة من خلال نسبة إقبال ناهزت 70% ، وهو ما لم يحصل منذ انتخابات 1997 البرلمانية، فقد شعرت أغلبية المجتمع بضرورة عدم التسليم بما قالته عمليات سبر الآراء عن اكتساح مرجح لأقصى اليمين، بل لعلّ هذا تحديدا هو من حفّز الكثيرين، بل واستفزّهم، فخرجوا بكثافة للتصويت لمنع سقوط فرنسا في يد النقيض السياسي والتاريخي لكل قيم فرنسا الجمهورية.
ثانيا : تنادي تيارات اليسار المختلفة لتشكيل كتلة موحّدة متناسية كل خلافاتها لأن الأولوية الطلقة هي التصدّي بقوة لموجة اليمين المتطرف الشعبوي وما يحمله من مشاريع مخيفة لتنوّع المجتمع وتسامحه، خاصة من خلال كره الأجانب والمهاجرين. ورغم كل الشيطنة التي لحقت بحزب "فرنسا الأبية" خاصة بسبب وقوفه ضد حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة فقد تمكّن هذا الحزب بزعامة جون ليك ميلنشون من أن يكون العمود الفقري لتحالف يساري استطاع كذلك بتكتيكاته الانتخابية الذكية الحصول على هذه النتائج الجيدة حين منع تشتت الأصوات في مواجهة مرشحي اليمين المتطرف حين دعا الكثير من المرشحين في دوائر عدة إلى الانسحاب لمصلحة مرشح واحد دعمه الجميع بقوة.
كلا العاملين يصبان في استنتاج واحد وقوي وهو أن الاتجاه نحو اليمين المتطرف ليس قدرا محتوما، ولا سيما في أوروبا، وأن نجاح هذا اليمين في بعض الدول مثل إيطاليا لا يعني بالضرورة أن الأمور ستسير وكأنها "حتمية تاريخية". في هذا كله بارقة أمل لكل التيارات المعارضة لهذا التوجه في هذه القارة حتى أن رئيس الوزراء الاسباني لم يتردد في التصريح فوز اعلان النتائج بأن اثنتين من أكبر دول أوروبا، وهما بريطانيا وفرنسا، تبعتا المسار الذي اختارته بلاده منذ عام وهو رفض اليمين المتطرف والالتزام باليسار الاجتماعي، معتبرا أن كلا من لندن وباريس قالتا لا للتراجع عن الحقوق والحريات ولا حكومة مع اليمين المتطرف، مع أن لكل يسار في كل من هذه الدول "نكهته" الخاصة.
عودة اليسار إلى أوروبا، بعد موجة مماثلة في أمريكا اللاتينية في الأعوام القليلة الماضية، تثبت أن اليسار لم يندثر، كما تصوّر البعض، ولكنه يسار جديد غير دوغمائي بعيد عن شعارات أيديولوجية تجاوزها الزمن. هو يسار منحاز للأغلبية الساحقة من الشعب ومطالبه في حياة كريمة في راتبه وتقاعده والخدمات الصحية والاجتماعية التي يقدّمها وليس لرؤوس الأموال الكبرى التي لا تعبأ سوى بتكديس الثروة على حساب الأغلبية الساحقة من الجمهور.
نتائج انتخابات فرنسا لن تروق بالتأكيد لعديد الأوساط الشعبوية المتطرفة في أوروبا وخارجها، وحكومة مثل حكومة ميلوني الإيطالية، على سبيل المثال، ستكون في حالة حداد حقيقية هي وغيرها ممن توهموا أن الأمور آيلة إليهم لا محالة، ولكل من ارتبط بهم في الضفة الجنوبية من المتوسط، وكذلك حكومة نتنياهو الإجرامية المتطرفة. لكل ذلك تداعياته الهامة المختلفة التي لم تكن حرب غزة بعيدة عنها، بشكل أو بآخر، وهو ما يجب رصده من الآن فصاعدا.