"كأنك تعطي حبة أسبرين لمصاب بالسرطان"..هكذا قال من كان أحد أبرز المقرّبين من الرئيس التونسي وهو يصف مقاربة هذا الأخير للأوضاع الحالية في بلاده.
العميد السابق لكلية القانون الصادق بلعيد الذي كان عيّنه قيس سعيّد رئيسا للجنة المكلفة بصياغة دستور جديد يشرح هذه النقطة في مقابلة له مع صحيفة "لوموند" الفرنسية فيقول عن الرئيس "إنه خارج الموضوع تماما، هو لا يفقه شيئا في الأوضاع الحالية للبلاد، في المرض الذي تعانيه حاليا وهو إقتصادي واجتماعي وثقافي وبيئي. لا يمكن لنا أن نقول: سنحسّن التنظيم السياسي للبلاد حتى تسير الأمور فيها أحسن".
ما قاله بلعيد صحيح لكن ذلك لا يعفيه من المسؤولية فقد كان هو نفسه ضمن "الفريق الطبي" الذي كان يريد مد المريض بتلك الحبة من الأسبرين محاولا بهمّة تضليله مع "رئيس القسم" الذي يرقد فيه وهو يعلم تماما أن لا التشخيص صحيح ولا كذلك العلاج، قبل أن يُصدم بأن نص مشروع الدستور الذي نشر لا علاقة له بما كان أعده مع آخرين لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة.
لا حديث الآن في تونس إلا عن الاستفتاء عن دستور جديد للبلاد في الخامس والعشرين من هذا الشهر مع أن هذا الدستور هو بالتحديد حبة الأسبرين لمريض ينهشه السرطان بوحشية، فتونس تعاني حاليا من وضع كارثي على كل المستويات تقريبا والذهاب إلى هذا الاستفتاء والخروج بدستور جديد لن يغيّر من هذا الواقع مريرا شيئا، بل سيزيده تفاقما وتعفّنا، لأنه يعني أن "الطبيب" سعيّد ما زال مصرا على التشخيص الخطأ والدواء الخطأ.
وفي الوقت الذي يجري فيه تحذير تونس من أنها قد تصبح في دائرة العجز عن سداد ديونها البالغة 35 مليار دولار لأول مرة في تاريخها، وفي الوقت الذي كان فيه مخزون تونس من القمح يشارف على النفاد آخر الشهر الماضي لولا مسارعة البنك الدولي بمدها بمساعدة عاجلة ب130 مليون دولار للتمكن من دفع شحنات قمح تنتظر مقابلها النقدي الفوري، وفي الوقت الذي تلجأ فيه البلاد إلى استعمال مخزونها الاستراتيجي من النفط لتزويد السوق الداخلية مع ما يشكله ذلك من مجازفة تتعلق بشبكة الكهرباء الوطنية وضرورة تأمينها الدائم للمرافق الأساسية كالمستشفيات وغيرها…
وفي الوقت الذي تجري فيه تونس اتصالات أو مباحثات، لا أحد يدري بالضبط، مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بأربعة مليار دولار بشروط مجحفة ستنعكس دمارا على البلاد التي يئن أهلها تحت موجة غلاء لا تطاق، وفي الوقت الذي تطرح فيه تساؤلات حائرة عن وضع المالية العمومية وقدرة الدولة على دفع رواتب كل شهر مع شكوك حول طبع أوراق نقدية جديدة ستشعل التضخم أكثر فأكثر، وأخرى حول اللجوء إلى سندات الخزينة لمواجهة الأوضاع…
وفي الوقت الذي تسود في البلاد حالة استقطاب حادة بين سعيّد ومعارضيه، مع تصاعد منسوب الكراهية والتباغض داخل المجتمع، وفي الوقت الذي تنعدم فيه بالكامل أية بوادر لحوار سياسي أو مجتمعي حيث يسود التجاهل الرسمي الكامل لتحفظات الأحزاب والجمعيات والشخصيات على مجمل التمشي الحالي للحكم، وللاتحاد العام التونسي للشغل وقلقه البالغ بخصوص "الاصلاحات الاقتصادية" التي تنحتها الحكومة حاليا منفردة، ولغضب القضاة وإضرابهم الطويل وإضراب بعضهم عن الطعام…
في وقت يجري فيه كل ذلك وغيره كثير ، أي قيمة لأي استفتاء خاصة عندما يكون في سياق كامل مطعون في شرعيته؟؟ وما قيمة التصويت على دستور الكل يجمع تقريبا على "الصلاحيات الفرعونية" أو "صلاحيات المرشد" التي يمنحها لرئيس سيصبح بالكامل خارج الرقابة والمحاسبة؟؟ وما الذي سيتغيّر عمليا في البلاد صبيحة الاعلان عن نتائج هذا الاستفتاء، الذي لم تشر فيه السلطة ولو مرة واحدة لإمكانية أن يتمخّض عن (لا) كبيرة أو صغيرة؟؟ باختصار شديد: لا شيء على الإطلاق.. سوى مزيد التعقيد والتعفّن.
كل ما سيحصل هو ازدياد حدة الاستقطاب السياسي، وتدهور الوضع المالي والاقتصادي للدولة، مع الانحدار المعروف والمتواصل لمستوى الخدمات العامة من إدارة ومواصلات ومطار دولي ومستشفيات وتوفر الأدوية ونظافة الشوارع، فيما سيواصل قيس سعيّد الحكم منفردا بمراسيم رئاسية إلى غاية إجراء انتخابات برلمانية في ديسمبر كانون الأول المقبل، هذا إن جرت أصلا، وبأي قانون انتخابي، ومن سيشارك فيها طالما أن كل الأحزاب ترفض نهج الرئيس جملة وتفصيلا إلا القليل ممن لا يمثل شيئا تقريبا. وطالما أن حكم الرئيس منفردا، عبر مراسيم، لم يحل أيا من مشاكل البلاد طوال سنة كاملة فمن المستبعد أن يحل أيا منها كذلك في النصف سنة المقبلة.
كل مواطن حر في أن يذهب يوم الاستفتاء في ظروف كهذه لكن من المفيد جدا أن يدرك من الآن أن حبة الأسبرين التي سيشارك في تقديمها، ليس فقط لن تشفي مريض السرطان، بل ستعجّل برحيله. عندها سيصبح هذا المواطن شريكا في مسؤولية موت هذا المريض بسبب الاهمال الطبي.