ها قد عاد من جديد الخوض في «حل الدولتين» و«الدولة الفلسطينية» ولكن لا شيء أبدا يشي بالجدية في الحديث الأمريكي عنه.. ولا شيء أبدا يشي باستعداد إسرائيلي لقبول هذه الدولة بأي شكل من الأشكال.. ولا شيء أبدا يشي في الحديث الفلسطيني الرسمي بأن هذه الدولة تٌفتـك ولا تٌهدى.. ولا شيء أبدا يشي في الحديث العربي الرسمي بأن هناك إصرارا قويا على ربط ذلك بأي تطبيع مقبل أو محتمل.
وطالما أن ذلك كذلك، كما يقول القانونيون، فإن كل الحديث الراهن عن دولة فلسطينية لا يعدو أن يكون حبوبا مهدّئة ليس إلا مع أن الكل يعلم جيدا أن ما يتفاعل في أحشاء المنطقة من سقم قاتل لم تعد تنفع معه المهدّئات مهما كانت.
لنفصّل أكثر، الولايات المتحدة وهي تكرّر على لسان رئيسها وكبار مسؤوليها موضوع الدولة الفلسطينية لا تبدو أبدا، وفي المطلق، في وارد القيام بالحد الأدنى الذي يمكن أن يفهم على أنه مجرّد خطوات محتشمة في هذا الاتجاه. لا فائدة من استعراض كل مراحل التسويف منذ مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، ولكن لننظر فقط إلى كيف تتعامل الإدارة الحالية مع أكثر حكومة إسرائيلية متطرفة في التاريخ فهي تبدو حازمة أحيانا تجاهها ثم سرعان ما تتراجع، فضلا عن دعمها العسكري والغطاء السياسي وعدم وقف ما يجري من مجازر في حق الأطفال والنساء. حتى بعض الإجراءات التي اتخذتها واشنطن ضد «بعض المستوطنين المتطرفين العنيفين» ظلت فردية ومحدودة، وحين عزمت على معاقبة كتيبة كاملة متطرفة في الجيش الإسرائيلي تراجعت بسرعة. إدارة كهذه، أو حتى غيرها، كيف ينتظر منها أن تفرض القبول بدولة فلسطينية جديرة بهذا الاسم مع ما يصحب كل ذلك من إجراءات أقلّها الانسحاب من الضفة وتفكيك المستوطنات لضمان تواصل جغرافي لهذه الدولة حتى لا تكون كقطعة جبن تملؤها الفراغات؟!!.
أما في الجانب الإسرائيلي فما من طرف حاليا يمكن الحديث معه للقبول بدولة فلسطينية فكل الطبقة السياسية رافضة لها، وكذلك الرأي العام، وكلاهما يزداد تطرّفا وغلوا بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي بحيث لم يعد هناك من يمين أو يسار في هذا المجتمع، حتى أن حزب العمل الذي بنى الدولة وحكمها لعقود لم يعد قادرا حتى على تجاوز عتبة التصويت ليحصل على نائب واحد في الكنيست كما تؤكد ذلك كل عمليات سبر الآراء الأخيرة.
فلسطينيا لم يعد صوت القيادة الفلسطينية مسموعا بعد أن ارتضت أن تظل في خانة المناشدات وتسجيل المواقف، ولم تجدّد نفسها ولا خطابها، ولم تعد مقنعة لشعبها وفق ما أظهرته كل استطلاعات الرأي في الضفة الغربية. هذا فضلا عن استمرار تنسيق أمني لم تشهد القضية أسوأ منه مع عدو لا يقدّر حتى هذه «الخدمة» ولا يحترم حتى الحد الأدنى من المظاهر الشكلية لسلطة له معها اتفاقات لا تحصى. أما المقاومة في غزة فمشغولة بما يجري هناك وليست في وارد الخوض في موضوع الدولة وهي تدري أن المطلوب هو شطبها بالكامل، ومع ذلك فهي تردد أن لا مانع لديها من تسوية تقوم على قيام دولة فلسطينية والأرجح أنها تفعل ذلك من باب درء اللوم عنها ليس أكثر فالمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين فما بالك بمرار عديدة.
عربيا، لا فائدة في القول إن دولا لا تملك الإرادة والجرأة على قطع علاقاتها مع حكومة نتنياهو في قمة جرائمه الوحشية، ولا على إدخال المساعدات الغذائية إلى قطاع غزة وهي التي أجمعت في قمتها العربية الإسلامية في 11 نوفمبر /تشرين الثاني الماضي على «كسر الحصار وفرض ادخال المساعدات» بل وتؤسس «شركات سمسرة» لابتزاز مبالغ مالية مجحفة نظير خروج فلسطينيين من القطاع، دول كهذه لا يرجى منها شيء لا الآن ولا غدا.
أما بقية العالم فأي شيء يمكن أن يٌطلب منه أصلا وهو يرى كل ما سبق سوى أن يردد مع المردّدين «تعويذة» الدولة الفلسطينية مع أن دولا أوروبية بعينها بدت أكثر جدية في ذلك عبر الاستعداد القريب للاعتراف بهذه الدولة، ربما قبل نهاية مايو/ أيار الحالي.
لا بد هنا من التأكيد وبقوة أن الحديث عن الدولة ما كان له أن يعود أصلا لولا ما قامت به المقاومة منذ السابع من أكتوبر من قلب للطاولة على الجميع، ولولا صمودها طوال الأشهر الماضية رغم الدمار والدماء، لكن الدولة لن تقوم، حقيقة لا استجداء، إلا حين تتحوّل حياة الاحتلال إلى جحيم لا يطاق وتكلفة فوق طاقته، وحين تصبح واشنطن عاجزة على مواصلة رعايته والإنفاق عليه بعد أن يزداد الغضب لقواها الحية من طلبة وغيرهم، وحين يشتد ضغط الرأي العام الدولي ضد إسرائيل المنبوذة، وحين ينتهي الوهم بأن دولة فلسطينية مستقلة حقا يمكن أن تقدم على طبق من فضة دون تضحيات.. حينها تعالوا نتحدث جدّيا عن هذه الدولة.