وقفت الصحافية الفرنسية تسأل الرئيس ايمانويل ماكرون عن الأسباب التي تجعله يركّز بشكل دائم على التدخل التركي في ليبيا ويتجاهل بقية التدخلات الأخرى وخاصة التدخلين المصري والإماراتي؟
أجاب ماكرون، وقد وقف الاثنان في حديقة الإيليزيه وإلى جانبه الرئيس التونسي قيس سعيّد، بأنه ضد كل التدخلات الأجنبية في ليبيا وذكر بعضها سريعا، من بينها روسيا، لكنه أسهب بخصوص تركيا فيما لم يقل حرفا واحدا عن الإمارات وأشاد بمصر التي اعتبر أنها تدافع عن أمنها القومي، وبهذا يكون الرئيس الفرنسي قد كرّس حُكْم الصحافية من حيث أراد الرد عليها.
أما الرئيس التونسي فقد تبرَّع بإضافة بعد أن انتهى نظيره الفرنسي من جوابه فتورّط في ما لم يكن مُجبرا على التورّط فيه. قال سعيّد إن حكومة الوفاق الليبية تتمتع لا محالة بشرعية دولية لكنها «شرعية مؤقتة» ولا بد من تنظيم انتخابات تنبثق عنها سلطة جديدة. وفي نفس الجواب أشار إلى أن تونس ضد تقسيم ليبيا وأنه يؤيد لقاء جامعا بين القبائل الليبية على غرار «لويا جيرغا» في أفغانستان.
إذن نحن أمام مشهد لم يفعل فيه الرئيس الفرنسي شيئا سوى ترسيخ ما عُرف عن سياسة بلاده من اصطفاف مع المعسكر الموالي لخليفة حفتر وعموده الفقري عداءٌ مستحكمُ لتركيا وتوجهاتها المختلفة، فيما «أفتى» الرئيس التونسي بما لم يسبقه إليه أحد من حديث عن «شرعية مؤقتة» وانتخابات تنبثق عنها شرعية دائمة ومؤتمر للقبائل وكلّها تفاصيل تعود لليبيين دون غيرهم، فلم يكن مطالَبا بأكثر من الاشارة إلى المبادئ العامة مثل ضرورة الحل السياسي ورفض التدخلات الأجنبية جميعها والاستناد إلى اتفاق الصخيرات والقرارات الدولية.
هذا المشهد في حديقة القصر الرئاسي في باريس جسّد في النهاية مفارقة واضحة بين من يتحدث بمنطق الدولة، وهو في هذه الحالة ماكرون، حتى وإن كانت التوجهات التي يعلنها تخفي حسابات كبرى ليست ليبيا همَّها الأكبر، وبين من يتحدث بما خطر على باله وقتها، وهو الرئيس سعيّد، حتى وإن كان كلامه يأتي من باب الحرص على ليبيا، لكنه حرص غير مدروس وسيجلب سخط أطراف ليبية لم يكن من مصلحة تونس استفزازها أو الإساءة إليها، خاصة بعد كل الذي حققته على الأرض وخاصة أنها هي من يقف مباشرة على حدود تونس الجنوبية والمقصود هنا طبعا حكومة الوفاق.
وإذا كانت لفرنسا في ليبيا حساباتها الكبرى وكذلك لتركيا وروسيا والولايات المتحدة، وبناء عليه تتصرف هذه الدول سياسيا وعسكريا واستراتيجيا، فإن تونس لا دور مشاركا لها حاليا مع هذا المعسكر أو ذاك، ولا مصلحة لها أبدا غير أن تكون الشرعية الدولية هي المرجعية والحلول السياسية الجامعة والمتفاوض عليها هي الأساس، وأن تكون ليبيا الجارة تنعم بالاستقرار فلا تشكل تهديدا لها أول ملاذ لمتطرفيها، وأن تستقر في النهاية دولية مدنية ديمقراطية تحكمها القوانين والتداول السلمي على السلطة، بعيدا عن أي حكم انقلابي عسكري يصل بالقوة ويشكل شوكة في خاصرة تجربتها الديمقراطية الوليدة ومنصة متقدمة لمن يُضمرون الشر لها.
لقد كانت ليبيا على الدوام سندا اقتصاديا كبيرا لتونس والتونسيين، سواء من خلال عمل مئات الآلاف هناك وقدوم الليبيين المكثف إليها للسياحة ولأغراض معيشية مختلفة فليبيا هي رئة الجنوب التونسي التي لولاها لاختنق قبل عقود، أو من خلال مشاريع إعادة الإعمار المرتقبة في ليبيا التي يمكن لتونس أن تلعب فيها دورا أساسيا في ضائقتها الاقتصادية الحالية.
مقابل هذه الصورة، نجد دولة مثل الجزائر يتحرك حاليا رئيسها عبد المجيد تبون بكثير من التوازن متجنبا الخوض في التفاصيل التي لا معنى لها في الظرف الحالي، فهو يركز على إبقاء الخطوط مفتوحة مع الحكومة الشرعية في طرابلس، والتي يؤكد دائما على شرعيتها، وكذلك مع الطرف الآخر في الشرق الليبي وإن كانت قناتُه الآن مع عقيلة صالح رئيس الجزء المتبقي من البرلمان في طبرق، وليس خليفة حفتر الذي يبدو أن ورقته قد احترقت بالكامل علما وأن الجزائر لم تكن أصلا تنظر إليه بارتياح منذ البداية.
مثل هذا الدور الجزائري المتوازن، والصارم في نفس الوقت، لا تنظر إليه بارتياح كل من باريس والقاهرة إلى درجة أن ماكرون في ذات المناسبة التي جمعته بسعيّد عدَّد َكل الدول المحيطة بليبيا وأهميتها وتجاهل ذكر الجزائر من بينها، فيما توجه السيسي إلى تحديد «الخط الأحمر» لبلاده في سرت والجفرة كنوع من الرد على تبون الذي سبق له أن اعتبر طرابلس خطا أحمر، علما وأن الجزائر التي لها مع ليبيا حدود تمتد 900 كيلومتر لن تقبل أن يدخل الجيش المصري إلى ليبيا، مع أن الجزائر نفسها لم تندد مباشرة بالتدخل التركي هناك بل وتحتفظ بعلاقات جيدة مع أردوغان. كل ذلك دون أن ننسى التعديل المرتقب على الدستور الجزائري للسماح للجيش بمهمات خارج الوطن، وهي رسالة على القاهرة أن تلتقطها قبل غيرها.