طالما أن المرء لم يعد قادرا على زيارة بلده تونس لأنه لم يعد يشعر بالأمان كصحافي صاحب رأي، قد يُلاحق أو يعتقل لمقال كتبه هنا على أعمدة هذه الجريدة، أو موقف في أحد مواقع التواصل، ويمكن أن يؤخذ بسهولة على أنه «فعل فاحش ضد رئيس الدولة» أو قد يُمنع من مغادرة البلاد بدعوى أن هناك قضية ضدّه لا أحد يدري من رفعها لكن قد يُشرع لاحقا في جمع «مستنداتها» حتى وإن كانت واهية بالكامل.
وطالما أن القضاء أصبح رهن إشارة السلطة السياسية ولم يعد قادرا على إنصاف أحد أو رد أي دعوى متهافتة لا قيمة لها، كما أثبت قضية المجموعة المتهمة «بالتآمر على أمن الدولة» وطالما أن أصوات المعترضين على ممارسات كهذه لم تعد مسموعة وسط أجواء الخوف أو اللامبالاة، فالكل ينصحك بعدم القدوم إلى تونس لأن لا أحد قادرا على أن يُقدّم لك تقييما موضوعيا لما يمكن أن يحدث لك إن أنت فعلت. المفارقة أنك قد تأتي وتغادر دون أدنى عراقيل أو منغّصات، تماما مثلما ما يمكن أن تقع في مشاكل لا أول لها ولا آخر.
لم يسبق لي أبدا أن ظللت بعيدا عن وطني لزهاء الأربعة أعوام، في البداية بسبب كورونا ثم بسبب ما هو أسوأ من كورونا نفسها، في أعقاب ما حل بالبلاد منذ انقلاب قيس سعيّد على الدستور والانتكاسة المريرة التي حصلت وجعلتها تعود إلى الوراء على جميع المستويات، وسط بهتة وصلت حد البلادة العامة.
وطالما أن ذلك كذلك، كما يقول عادة القضاة والمحامون في حيثيات أحكامهم أو مرافعاتهم، فالحنين إلى معرفة ما يجري حقا في البلاد، خارج ما يكتب هنا وهناك، يدفعك إلى سماع رأي العائدين إلى أوروبا أو الخليج من إجازاتهم هناك، بالتوازي مع البقاء على تواصل بآخرين ممن لم يحل بقاؤهم في تونس دون امتلاكهم الجرأة والقدرة على التمييز والحفاظ على مسافة واحدة من الجميع وتجنّب الأحكام المسبقة التي كثيرا ما تشوّش الرصد السليم.
يقول هؤلاء إن حالة عامة من الاستياء تسود لا محالة بين الناس تعود إلى الغلاء الفاحش للأسعار كافة وغياب العديد من المواد الأساسية والأدوية والوقوف في طوابير طويلة للحصول على الخبز حتى أن أحدهم قال إنه كان يتعرّف على المخابز في القرى أو المدن التي مرّ بها في سيارته من جنوب البلاد إلى شمالها من خلال مشهد الطوابير في كل منها.
الملفت أن هذا الاستياء، المصحوب بعدم الاقتناع المتفاوت بأداء رئيس الدولة، واحتكاره لكل الصلاحيات، و«تأميمه» لكل نشاط سياسي، وحالة الإنكار التي تلازمه في الاعتراف بمشاكل البلاد الحقيقية عبر رمي كل شيء على مؤامرات من هنا وهناك، لم يتحوّل إلى قوة غضب تسعى إلى التغيير، بل إنه لم يمنع معظم التونسيين من ارتياد الشواطئ والحفلات والتمتع بالمهرجانات الصيفية وكأن شيئا لم يكن. السبب، أن الناس لم تعد تكترث كثيرا بكل ما يدور حولها ولم تجد في خطاب المعارضة ما يحفّزها للتحرّك لأنها لا ترى في هذه المعارضة بديلا مقنعا لقيس سعيّد وبالتالي فهي تفضّل الصبر والانتظار.
المشكل هنا أن الرضى بالسيئ الموجود، بحجة الخوف مما هو أسوأ بتقديرهم، سيقود البلاد حتما إلى ما هو أسوأ من الحالي والسابق لأن حالة السيولة الراهنة والتسليم بما يمكن أن تأتي به الأحداث، أو حتى الأقدار، دون إظهار أي همّة نحو التغيير، قاد في النهاية إلى نوع من العجز والخنوع بلا أفق أو أمل، مهما كان محدودا، وهو شعور مدمّر وخطير إن هو تمكّن من الجميع لأنه حالة من التيه العام للمجتمع وقواه المختلفة مع ضياع كامل للبوصلة.
الأخطر في كل هذا، تأكيد كثيرين على ما يسمّونه «غياب الدولة» ذلك أن التراجع المستمر في الأداء السياسي والاقتصادي، والإصرار على الفشل، وتجنب التشخيص الصحيح للمشاكل، والدفع إلى الواجهة بوزراء ومسؤولين وطنيين ومحليين لا يملكون من صفات رجال الدولة والكفاءة شيئا، خلق في النهاية انطباعا عاما بأن الدولة لم تعد كما عهدوها أبدا حتى في أحلك الظروف، بغض النظر عمّن كان يحكمها. وإذا كان الرئيس سعيّد مغرما باتهام يكرّره دائما، بمناسبة وبدونها، لأطراف لا نعرفها ولا يسمّها، بأنها تسعى إلى «تفجير الدولة من الداخل» فإن الوقائع تثبت عمليا أنه هو وجماعته من غير أصحاب الكفاءة والتجربة، هم تحديدا، من يمكن أن ينطبق عليهم فعلا اتهام كهذا.
سألت وزيرا تونسيا سابقا عما كان يرى أوجه شبه ما بين ما يجري حاليا في تونس وتلك الأجواء التي عاشتها البلاد في نهاية حكم الرئيس بورقيبة في ثمانينيات القرن الماضي، مع أن الفترة الراهنة طالت أكثر، فأجاب بأن القضية ليست في طول الفترة أو قصرها بل القضية الأهم أنه وقتها كانت هناك دولة، أما الآن فلا دولة تقريبا!! محزن جدا كلام كهذا.